وجدت، مع إطلالة يوم 14 تموز 1958، أن أبدي بضع ملاحظات عن الوضع العراقي الراهن: تشخيصا، وجذورا وأسبابا، وهل من حلول في الأفق؟
إن الأنظمة والحكومات والأوضاع العامة في كل بلد كالعراق لا تقارن بما كان سيئا، بل بما كان يجب أن يكون أفضل، فالسيئ لا يقارن بما كان سيئا أو حتى أسوأ. وحجة quot;من البديلquot; لا يجب أن تحول بين الوطنيين وبين انتقاد وإدانة ما هو ظالم وفاسد، والنضال السلمي لإصلاح الأوضاع إن أمكن. وهناك حقيقة أخرى، وهي أن ليس هناك نظام أو حكومة كلها خير وصلاح أو أخطاء وظلام، فالأمور ليست إما أسود وإما أبيض، فقد تكون هناك بينهما ألوان أخرى، ولكن يجب تشخيص ما هو الحاسم وما هو الثانوي ليمكن الحكم الصحيح. ومن رأي بعض الباحثين أنه، حتى بين الطغاة، قد يوجد هذا الطاغية أو ذاك الذي يخزه ضميره أحيانا، ولكنها لحظات عابرة في سجل ملؤه الدم والجريمة.
قبل معالجة الوضع الراهن، أراني ملزما بوقفة قصيرة لدى شخصية عبد الكريم قاسم وصفاته، مما يفيد للمقارنة بالوضع العراقي القائم.
ويذكر أن شخصية قاسم إشكالية للغاية، وكان أعداؤه كثيرين رغم أن فريقا منهم أنصفه بعد رحيله المأساوي. وقد نُشرِت عن 14 تموز وعبد الكريم قاسم دراسات وكتب كثيرة، أرى في مقدمتها ما نشره الدكاترة علاء الدين الظاهر، وعبد الخالق حسين، وعقيل الناصري، حيث ثمة معلومات وافية، ومحاولات تحليل يمكن الاتفاق مع أكثرها.
لم يكن عبد الكريم قاسم مجردا من العيوب والأخطاء السياسية الكبيرة التي ساهم بعضها في قتل الثورة واغتياله بجبن وخسة أمام عدسات التلفزيون بعد رفض منحه حتى كوب ماء؛ ولكنه، من جهة أخرى، كان يتصف بخصال وفضائل هي أندر من النادرة بين الحكام العرب اليوم، ولا نطمع بتوفر جزء صغير منها في حكام العراق!!
قاسم: لم يسكن قصرا، ولم يمتلك بيتا ولا سيارة خاصة، ورفض استخدام سيارة مصفحة أهداها له السوفييت، وتبرع بقطة أرض ورثها لبناء مدرسة للبنات في مدينة الصويرة الريفية. طعامه اليومي كان ينقل له من بيت شقيقه، وهناك أيضا كانت ملابسه تغسل وتكوى. كان يتبرع من راتبه للفقراء، وبنى عشرات المدن والأحياء في كل أنحاء العراق. أصدر قانونا للأحوال المدنية أنصف المرأة كل الإنصاف فُاثار حفيظة رجال الدين، وفي المقدمة المرحوم السيد محسن الحكيم، المرجع الشيعي عهد ذاك. وقاسم عين امرأة وزيرة، وكان ذلك حدثا يقع لأول مرة في العالم العربي. كان لا يفرق بين الناس حسب الدين والمذهب والقومية، ويحضر أماكن عبادة المسلمين- من سنة وشيعة- ومن يهود، ومسيحيين. كان يتجول ليلا بلا حراسة لتفقد شؤون الموطنين. مكتبه الرسمي، كما يصفه أحد أعدائه، صلاح نصر، رئيس مخابرات عبد الناصر: quot;مكتب صغير متواضع نسبيا، يشغل إحدى حجرات الطابق الأول من مبنى قديم، مجهز بأثاث قديم لكنه نظيف ومنظم.quot; كان يرفض قمع مظاهرات قومية تنادي بقتله، بل يحجز بينها وبين المظاهرات المؤيدة له، وكان يقول في خطبه للساسة المتنازعين: quot; أوصيكم بالتعاون والتسامح...قوة الواحد منكم قوة للآخر.quot;، وقال مرة يخاطب الشيوعيين والديمقراطيين والقوميين المتناحرين: quot; أتوسل إليكم لتتفاهموا...quot;
عبد الكريم اغتيل وهو يهتف مبتسما بحياة الشعبquot;، وهو الذي قال مرة في إحدى خطبه عام 59: quot;إنني أفنى في سبيل خدمة الشعب، وبعد مماتي ستبقى روحي نصيرا له.quot;

****
في كلمة طريفة كتب عراقي عن المناخ في عهد عبد الرحمن عارف الذي سبق العهد الثاني للبعث، مذكرا بالمسرحيات والأغاني الجميلة، والرقصات المثيرة، ومحاضرات المفكر علي الوردي والباحث مصطفى جواد من التلفزيون، لينتهي بالقول: quot; كانت الحياة أكثر فقرا وبردا وجوعا، لكنها كانت دائما خضراء! حياة أحلى من حياة اليوم، حيث لا طعم ولا لون ولا رائحة غير طعم ورائحة الكراهية والغل والتنافس والتنابز والتحزب والبارود، والطائفية المقيتة، وغير لون الدم. حياتنا كانت أحلى، وأيامنا كانت أجمل. وعسى الله يصلح!quot;quot;

والآن: كيف يمكن وصف الوضع العراقي وأعراضه؟

في رأيي، أن العراق هو اليوم في مأزق خطير، ومستقبله مجهول.
إن أعراض هذا المأزق تتمثل في التالي، وعلى سبيل العد لا الحصر:
- دستور متناقض ويُخضِع quot; الديمقراطيةquot; لأحكام الشريعة، وهو مفتوح على تفسيرات مختلفة فيما يخص الأقاليم وصلاحياتها وصلاحيات المحافظات، وبما يهدد بالتقسيم وتحويل البلاد لدويلات. ورئيس البرلمان استند للدستور حين طالب بإقليم مستقل للمنطقة الغربية quot;السنيةquot;، فاشتعلت بيانات الاستنكار مع أن الأحزاب الشيعية سبق أن طالبت، وألحت، بإقليم شيعي للوسط والجنوب على أساس مذهبي، وبمباركة من الجبهة الكردستانية؛
- الصراعات السياسية المتواصلة حول المناصب والامتيازات، مع عدم الجرأة، عن ضغوط أو لكسب شعبية زائفة، في تحمل المسئولية في قضايا هامة كبقاء بعض القوات الأميركية لاعتبارات أمنية وسياسية، أو رحيلها جميعا. ويبدو أن السيد المالكي راغب في بقائها ولكن حزبه رافض علنا - في توزيع للأدوار؛
- انحسار روح المواطنة وانتشار التقوقع الفئوي والحزبي، والتدخل المستمر لرجال الدين في كل شؤون الدولة والمجتمع؛
- الاعتداءات المتواصلة على الحريات الشخصية، وإعادة إنتاج أساليب صدام في التعذيب والسجون السرية؛
- وجود عقد وبؤر توتر سياسية وعرقية مزمنة، غير محلولة، هي بمثابة القنابل الموقوتة، وأعني مسائل توزيع النفط، والصلاحيات، وكركوك وما يوصف بالأراضي المتنازع عليها، وحيث إصرار الأحزاب الكردستانية على ضمها؛
- الحكومة القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية، ووصول غير الأكفاء للمراكز الحكومية وحتى المهمة منها؛
-برلمان يشكل فيه التيار الصدري، الذي له 8 وزارات، قوة يعتد بها، في الوقت الذي يحتفظ فيه الصدر بعدة مليشيات مسلحة، منها quot;كتائب اليوم الموعودquot;، التي راحت تهدد القواعد الأميركية والمنطقة الخضراء؛
-رئيس وزراء يحتكر المناصب ويركز في يديه السلطات بعد أن ناور مع نتائج الانتخابات، ويستخدم احتكاره لقوى الأمن والوزارات الأمنية للعدوان من وقت لآخر على مظاهرات سلمية تطالب بالإصلاحات. كما ضم إليه أيضا الهيئات المستقلة؛
- الأمن المنهار برغم التصريحات المطمئنة للمالكي، والتي توقف لديها المقال الأخير للأستاذ غالب الشابندر:quot; رئيس الوزراء العراقي ومحنة الوهم الذاتيquot;، وحيث، بعد كل تصريح مطمئن أمنيا، تجيبه عمليات إرهاب متلاحقة واغتيالات بالكواتم لم يكشف أحد لحد اليوم عن أطرافها المجرمة، وهي ليست طرفا واحدا وحسب؛
-الفساد الذي جعل العراق في مقدمة دول الفساد دوليا، ورواج تزوير الشهادات المدرسية وقرب العفو عن المزورين؛
-انهيار الخدمات، واقتصاد قائم على عائدات النفط ، ولا مشاريع مهمة لصالح التنمية والمواطنين، وإذ لا تزال العاصمة نفسها أشبه بمدينة للقمامة؛
- انهيار التعليم وتدهور مستواه وشيوع الروح الطائفية فيه، والتراجع الثقافي؛
- استفحال دور العشائرية بتشجيع مباشر ومتواصل من رئيس الوزراء، لتعزيز مركزه ولخلق هالة تفخيم لشخصه [ رفع صور كبيرة له في شوارع بغداد]؛
-التدخل الإقليمي المتعدد الرؤوس، وخاصة الهيمنة الإيرانية على مختلف مناحي الحياة العراقية: سياسية، واجتماعية ،ومذهبية، وتجارية واقتصادية، وأمنية، وثقافية، وتعليمية، وإذ يقوم الحكام العراقيون من وقت لآخر بالعدوان المسلح على سكان معسكر أشرف العزل والمسالمين تنفيذا للإرادة الإيرانية، بينما تواصل إيران قصفها للقرى الكردستانية.
تلكم جملة من أعراض المأزق العراقي، وربما هناك غيرها، دون أن نعني انتفاء وجود بعض الإيجابيات، كتوفر الحريات العامة، وكثرة الأحزاب، وتحسن نسبي في مستوى معيشة المواطن، خاصة الموظفين.
وإلى المقال التالي عن جذور وأسباب المأزق، والسؤال عن المخرج، إن كان ثمة مخرج قريب؟؟