يظهر أن العالم هو في موسم الشارع العربي، الذي راح يتحرك، وبدرجات وبطرق مختلفة، في دول عربية كثيرة، مشرقية ومغاربية، وحتى في الخليج. الأوضاع مختلفة ولا ينبغي وضعها جميعا في كفة واحدة، فلكل بلد ولكل مجتمع ظروفهما ولكل نظام خصائصه، كما أن الأمور نسبية، بما فيها معنى الحرية ومعنى التسلط والاستبداد ومداهما. أما ما يجمع فهو دور الشباب والاحتجاج على مشاكل الفقر والبطالة والمطالبة بالعدالة وبمزيد من الحرية- حيثما يوجد منها قدر معين.
إنها حركات احتجاج داخلية ولكن لها صدى دولي كبير، وبرغم محاولة إيران استغلال أحداث البحرين ومصر والتأثير فيها. كما هناك واقع كون الأنظمة الملكية لا تزال الأكثر قدرة على الصمود والأكثر استعدادا للانفتاح، لهذا الحد أو ذاك. بالطبع، إن الأحداث الأكبر والاهم حتى اليوم هي ثورات تونس ومصر وليبيا.
أحداث ليبيا لا تزال تحتل مركز الصدارة في الأنباء العربية والدولية بعد أن كانت تونس ثم مصر في مركز الصدارة، وهذا من دون إغفال ما يجري فيهما. ويستمر الشعب الليبي في نضاله ضد نظام الطغيان، الذي هو على وشك الانهيار برغم العنف الدموي الوحشي الذي تسبب، لحد اللحظة، في خسائر بشرية هائلة العدد.
إن نضال هذه الشعوب الثلاثة، وإرادتها الصلدة وتضحياتها، هي مصدر إلهام لبقية الشعوب، عربية وغير عربية، ويجب الانحناء تمجيدا وإجلالا لشهداء هذه الثورات والدماء الطاهرة التي أريقت لإزاحة الظلم والقهر ومن أجل الحرية والحياة الكريمة.
إن الأخبار الليبية المثيرة إذ تستمر، فإن ما يحدث في تونس ومصر يستدعي هو الآخر الاهتمام الاستثنائي، لاسيما ما يدور في مصر. ويجب القول، أولا، إنه، في وقت الأعاصير الثورية كهذه، وغليان الحماس العام، فقد ينظر البعض بنفور وامتعاض لمحاولة التأمل والتساؤل، أو لاتخاذ تقييم قد يخالف الاتجاه الجماهيري العام، quot;الذي لا يريد أن تقول غير ما يقول وأن تردد غير ما يرددquot;- على حد تعبير الأستاذ مشاري الذايدي. ومثل هذا الموقف الصعب يشعر به أيضا صحفيون غربيون، خصوصا أمام حماس اليسار الغربي الذي يعتبر أن ربيع الديمقراطية والعلمنة قد حل في بلاد العرب، والذي، إن جادلته بالإشارة لخطر الإسلاميين في مصر وتونس، أجاب فورا: quot; هؤلاء صاروا معتدلين كحزب أرودغان، وما هناك غير قلة ضئيلة فقط من المتطرفين الإسلاميين.quot; وهذا ما يبشر به أمثال روبيرت فسك وفريد زكريا والإنديبنديت والغارديان والاشتراكيون الفرنسيون ودعاية الحزب الديمقراطي الأميركي . وكان الكاتب الفرنسي quot; ألان جيراد سلامهquot; قد نشر مقالا بهذا الصدد تساءل فيه عما إذا كان الشارع العربي قد تغير فعلا باتجاه العصرنة والديمقراطية والعلمنة، كما يقول الاشتراكيون. ونقول هل فترة أسابيع من المظاهرات والاعتصامات كفيلة بتغيير ثقافة شعب وتقاليده والمفاهيم الشائعة بين شرائح واسعة من الناس فيما يخص الحريات الفردية، والحرية الدينية خاصة، وما يخص النظر للمرأة، والعلاقة مع غير المسلمين؟؟ ويذكّر المقال بالغضب العام والعنيف في الشوارع العربية والإسلامية حول الرسوم الكاريكتورية؛ ونضيف هياج الشارع المصري العنيف عند اغتيال الشهيدة مروة الشربيني في ألمانيا، ومظاهرات الإسكندرية ضد أقباط مصر وكنائسهم قبل الثورة، وحكم الردة في مسلم يبدل دينه. ويرى الكاتب أن شارع الثورات خليط، فيه العلمانيون والديمقراطيون، ولكن فيه أيضا إسلاميون هم أعداء للديمقراطية رغم ما يتظاهرون به، وهم الأقوى نفوذا والأحسن تنظيما، ونشير من جانبنا، والأكثر مالا، خصوصا والتنظيمات الإسلامية في العالم الإسلامي تتضامن مع بعض. ونذكر هنا تضامن إخوان مصر مع حزب الله ومع إيران في مشروعها النووي، وكذلك عضوية حسن الترابي في تنظيم أصولي دولي أقامه نظام الفقيه في أواخر التسعينيات، واستخدام هذا النظام للقاعدة في العراق وتسليحه لطالبان.
أما الأستاذ سلمان مصالحة، فيطرح أسئلة من نوع آخر في مقاله المعنون quot; ثورة حتى النصر، أم ثورة حتى العصرquot;[ إيلاف]. إنه يتساءل عما إذا كان دقيقا تسمية هذه الانفجارات الشعبية بثورات حسب التعريف الدقيق لمصطلح quot; ثورةquot; في العلوم السياسية. ومن رأيه أن هذه الأحداث الثورية هي مجرد ردود فعل واحتجاجات ثورية على أنظمة سميت زورا بالجمهورية والثورية وغيرهما من ألقاب فخمة. ولعل الأكاديمي والكاتب الفرنسي المعروف quot;جان دورميسونquot; يقترب من رأي الأستاذ مصالحة حين يكتب أن هذه quot; الانتفاضاتquot; [الثورات] تتمحور حول هدف مشترك كبير هو الخلاص من مستبدين فاسدين.
إن تساؤلات كهذه متروكة للنقاش الهادي، ولكن من دون أي تقليل من أهمية هذه الزلازل الثورية المباركة وواجب التضامن الفعال معها. ومن ضمن هذا التضامن واجب إبداء الملاحظة من موقع الحب والحرص. وإذ نقول ما مر، فإن بعض التطورات الجارية في مصر وتونس تستثير التساؤلات عن هوية كل من الثورتين، وإلى أين سينتهي بهما المطاف. وفي الأيام الأخيرة نشر عدد من الكتاب العرب، المحبين لشعبي تونس ومصر والحريصين على مستقبل مشرق للثورتين، مقالات تعبر عن بعض القلق والحيرة.
آخر هذه التطورات التونسية استقالة رئيس الوزراء الانتقالي بعد مظاهرات جديدة وتصعيد جديد للمطالب. وسبق ذلك سلسلة هجمات بالعنف على مراكز المحافظات، وإجبار وزير الخارجية على الاستقالة بسبب تصريحات له. ولكن ما يلفت النظر أكثر ذبح القس البولوني ومحاولات الاعتداء على مراكز عبادة لليهود. صحيح أن مظاهرة للعلمانيين قامت ردا على هذه المحاولة الخطرة لإثارة الفتنة الدينية، ولكن نشاط الإسلاميين في تونس يدعو لعدم الاطمئنان من أن تلك المحاولات العدوانية ستكون الأخيرة. ويبدو أن أكثر المحرضين ضد الحكومة الانتقالية هم جماعة حزب النهضة، وبعض قوى اليسار. ويتساءل بعض المعلقين العرب عما إذا كان سوف يستمر هذا التصعيد في المطالب والتظاهرات، وأين سيتوقف، وهل هناك من خطر الانزلاق نحو نهج وطريق الإقصاء والاجتثاث وشحن غريزة الانتقام وعقلية رفض الماضي كله، حتى بجوانبه الإيجابية ومكتسباته؟ أم هو التعود على التظاهر ولذة إسقاط الحكومات، كما يسأل كاتب آخر. وقد سبق أن كتبنا، أخذين بالحسبان دروس التجارب الأخرى، والعراقية خاصة، بأن بناء النظام الجديد يستغرق وقتا ويتطلب مرحلة انتقالية شاقة وأن الثورة لا تختزل في الإسقاط والإزاحة، وأن تحقيق مطالب العمل والعدالة والحرية واستئصال الفساد طريقه طويل ولا يمكن الوصول إليه بالاختزال والتبسيط وقلة الصبر، وشل ماكنة الدولة والتعليم والاقتصاد والسياحة، وأن لقيام النظام لديمقراطي شروطا ومقومات وخصوصا ثقافة ديمقراطية وسلوك يحترم الآخر ويقبل بالحوار وبالحرية الدينية المطلقة. وهناك اليوم، بالنسبة لتونس، مشكلة جديدة كبرى هي مشكلة تدفق اللاجئين المصريين والتونسيين وغيرهم عبر الحدود من ليبيا، وهي مشكلة شائكة تستدعي تظافر جهود الجيش والحكومة والشعب لمعالجتها.
أما الحالة المصرية، فالتطورات الجارية فيها لا تبعث على الاطمئنان.
لقد شاهدنا شباب مصر الثائر في ميدان التحرير يعلن انتهاء الاعتصام ويهب مع فئات أخرى من الشعب لتنظيف الميدان في تظاهرة حضارية رائعة جدا. وكان المعترضون هم quot; شباب الإخوانquot;، ولكنهم اضطروا لمجاراة البقية. ولكن ها أن المظاهرات تعود من جديد، والوضع يتوتر. وقد سبق ذلك تشكيل لجنة تعديل الدستور بما أعطى للإسلاميين دورا أساسيا فيها من دون بقية التيارات والجماعات السياسية. ولم نسمع في هتافات الشارع اعتراضا على هذه التشكيلة. ولا سمعنا مطالبة بإعادة النظر في البنود الدستورية التي تنص على أن الإسلام هو quot; المصدر الرئيسي للتشريعquot;، حسبما هو وارد في تعديل الدستور لعام 1980 [ وكان دستور 1971 ينص على أن الإسلام quot;مصدر رئيسيquot;، أي بلا ألف ولام]. وفوق هذه، كانت جمعة القرضاوي، الذي جاء ليكون نجم ميدان التحرير في زيارة دبرت له بعد منعه من زيارة مصر لمدة 30عاما. ومع القرضاوي، كان بقية زعماء الإخوان في تظاهرة قوة برغم أن تصريحاتهم تنفي هذا الغرض. والقرضاوي، الذي يفتي اليوم بقتل العقيد العتيد، هو نفسه الذي كان يفتي بقتل الأجنة الإسرائيليين في بطون أمهاتهم وبقتل المدنيين الأميركيين باسم التضامن مع شعب العراق، وإنما الحقيقة، دفاعا عن نظام صدام المنهار. كما حاول في خطبته إثارة موضوع كامب ديفيد في محاولة للنفخ في مشاعر العداء الموجودة في الشارع المصري لإسرائيل، وحتى لأميركا، وكسب شعبية شعبوبة غوغائية. وأما إيران، فعدا تصريحات آيات الله لتجيير الثورة المصرية quot;للصحوة الإسلامية [ أي الثورة الإيرانية]، فقد دشنوا العمل بالباخرتين الحربيتين من قناة السويس وإلى سوريا في محاولة لجس نبض الاتجاه السياسي للمجلس العسكري والنخب السياسية المصرية. كما تضاف كيفية تهريب مسئول خلية حزب الله التخريبية، سامي شهاب، من السجن في مصر إلى بيروت حيث جرى استقباله في مهرجان شعبي حضره حسن نصر الله. وكان هذا جس نبض آخر للمجلس العسكري المصري.
مع هذا، هناك جاءت محاولات لإشعال الفتنة ضد أقباط أسيوط. فقد ذبح راعي كنيسة أبو سيفين الشهيد داود بطرس في منزله، وهدم أفراد من الجيش سور دير الانبا بشوي في وادي النطرون شمال القاهرة بحجة أنه أقيم على أرض للدولة، علما بأن المنطقة صحراوية. فهل هذا وقته؟!! ولم الهدم قبل محاولة التفاهم والحل بالحسنى؟ ورغم المبادرة لتبريد هذه الأحداث، فإن من المشروع التساؤل: هل حقا تغير الشارع المصري في الموضوع الديني نتيجة قيام المسلمين والأقباط معا بالثورة وما شهدناه من مظاهر الأخوة؟ وهناك أيضا نشر القائمة quot; السوداءquot; لعشرات من الفنانات والفنانين المصريين بحجة أنهم كانوا مع مبارك. ترى من كان وراء هذا؟ وهل تراد محاكمة هؤلاء أم حظر أفلامهم وأغانيهم لتنتعش قلوب الإخوان المعادين للفن بكل فروعه؟ وبجنب هذا، تجري مطالبة اليوم باجتثاث ومحاكمة فريق كبير من رجالات الإعلام والصحافة. فأين ستتوقف المطالب الإقصائية؟! ولمصلحة ماذا؟! ويأبي السيد محمد حسنين هيكل إلا أن quot;ينظّرquot; لثورة الشباب، محرضا لهم باتهامه وجود مبارك في شرم الشيخ ببؤرة ثورة الردة، ومحذرا من بقائه هناك. وقد نسى أخونا، ومن استجوبه في التلفزيون المصري، أنه في مقدمة المنظرين لنظام الناصرية الديكتاتوري الشمولي، وأنه معروف بسرد حكايات يعرضها كحقائق ووثائق!
لاشك في أن معظم شباب الثورة، [وهم مع الأسف غير منظمين في تنظيم سياسي مستقل]، يؤمنون حقا بالقيم الديمقراطية ويرفضون حكم الإسلاميين ونظام أحكام الشريعة. ولكن المشكلة أن قوى وتيارات أخرى، والإسلاميين أولا، تحاول، بأساليب ماكرة ومثابرة، سرقة تضحيات الشباب وحرف الثورة بإسباغ هوية دينية عليها رغم التظاهر بغير ذلك. وإلا فكيف تفسير هبوط القرضاوي بالبراشوت على الميدان ؟؟
السؤال الكبير هو: العالم العربي إلى أين؟ كل الاحتمالات، في رأيي، واردة، المشرقة منها والمظلمة وما بين. والشيء المؤكد أن الديمقراطية العلمانية، لو كانت هي الهدف، لا تبنى بين عشية وضحاها، وأن أعداءها كثيرون في المنطقة وأقوياء، وأن الثقافة العربية، والثقافة السياسية خاصة، بحاجة إلى عمليات نخل وتشريح جراحية كشرط أساسي من شروط الانتقال إلى دولة المواطنة والعدل والقانون العلمانية
التعليقات