وأخيرا نجح أردوغان في الاستفتاء بنسبة 58 بالمائة ضد 42 بالمائة قالوا quot;لاquot;.
سارعت بعض الأوساط في الاتحاد الأوروبي للترحيب بالنتائج، ربما في اتفاق مع أردوغان في اعتباره النتائج quot;انتصارا للديمقراطيةquot;. ولم أسمع بالموقف الأميركي، ولكن لا شك في اتفاقه مع هذا التقدير، عالمين مدى رعاية أوباما لأردوغان وتركيا، ربما بأمل إضعاف الدور الإيراني في المنطقة، والتأثير الإيجابي على إيران نوويا- وهو أمل بينت الحوادث مدى تبسيطيته؛ فما حدث هو أن تركيا أردوغان تحولت لحليف مع إيران واعتبار مصيرهما quot;واحداquot;.
أما معظم التعليقات العربية، فإنها تسير، بدرجة وأخرى، مع الترحيب، حتى أن من المعقبين من اعتبر الحدث quot;تميهدا لنقل السيادة من [ الدولة] إلى الشعبquot;!!
في مقالنا السابق، قبل شهور، بعنوان quot; تركيا: إلى أين؟quot;، قلنا إن مصطفى كمال قام بثورة ثقافية واجتماعية كبرى في المنطقة. فقد ألغى دولة الخلافة الإمبراطورية، وأعلن العلمانية لصالح الحداثة والمرأة والتقدم برغم المآخذ على الأساليب القسرية في فرض السفور، والتضييق على المؤسسات الدينية، والموقف العنصري الرافض لحقوق الشعب الكردي. ومن هنا، كانت علمانيته ذات عيوب وثقوب لأن العلمانية، بشكلها المثالي، تمنح الحرية الدينية ولا تفرض على الناس فرضا طراز الملبس والتخلي عن بعض الطقوس الدينية. كما أنها تؤمن بحقوق القوميات الأخرى والأقليات كافة. ورغم كل هذه العيوب والمساوئ، فإن ما حققه مصطفى كمال يجب مقارنته بما كانت عليه أحوال التخلف في عهد الخلافة العثمانية، وهيمنة الخرافات ورجال الدين، والاستبداد السياسي، ورفض الحداثة رفضا تاما. ومن هنا، كان ما حققه طفرة كبرى إلى أمام، لا بالنسبة لتركيا وحسب، بل وللمنطقة ككل. فقد وضع تركيا في سكة العصر والنهضة العلمية والتعليمية والاقتصادية، والتفاعل الإيجابي مع مشكلات العالم. لقد كان ضرب القوى الرجعية والمحافظة ودعاة الخلافة هو لصالح تقدم المنطقة كلها، ونجد أن كثيرين من رواد النهضة العربية الحديثة من استوحوا إيجابيا من التجربة الكمالية، فكرا وممارسة. ومن المؤسف أن نلاحظ اليوم محاولات عربية ndash; تركية لإعادة النظر في التاريخ بتزويق عهد الخلافة وشخص السلطان عبد الحميد، ونرى بين المثقفين العرب مرحبين بما يعتبرونها quot; العثمنة الجديدةquot; وquot;العودة للمنبع، للشرقquot;، وصولا إلى مسلسل تلفزيوني عربي ndash; تركي بهذا الاتجاه يديره أردني. ومعنى ذلك أن علينا إتلاف أكداس المعلومات والوثائق والكتب والدراسات التاريخية والاجتماعية عن عهد الخلافة العثمانية وعن السلطان عبد الحميد!
لقد لاحظنا في مقالنا السابق أن أردوغان وحزبه راحا، منذ تسلم السلطة عام2002، يشجعان الحديث في تمجيد الخلافة العثمانية، ويحاولان النيل تدريجيا من علمانية المجتمع والنظام. وكانت الحكومة مثلا قد أرادت رفع الحظر على لبس الحجاب في الجامعات، ولكن المحكمة الدستورية ردت الطلب. فمؤسسات القضاء التركي، والجيش، والتعليم، كانت هي حامية العلمانية حتى الآن. ومن هنا، قيام حكومة أردوغان بتوجيه ضربة بعد أخرى للجيش بحجة التآمر، في حين أن المعارضة تؤكد أن القضية لا تخرج عن فبركة حكايات عن التآمر. كما أن الاستفتاء وجه ضربة للنظام القضائي بتوسيع عدد أعضاء المحكمة الدستورية، مما يسمح بتدخل الحكومة. أما التعليم، فمرجح أن الحكومة ستعمل مجددا على رفع الحظر على الحجاب في الجامعات. وقد تتالت المعلومات عن أنه، حيثما فرض حزب أردوغان سلطته القوية في البلدات والمدن، تجري الضغوط لفرض الحجاب أو لفرض الصيام، وغير ذلك من فرائض وطقوس. والحديث جار عن سن دستور جديد ينسجم مع طبيعة حزب أردوغان الإسلامي وأهدافه الحقيقية.
لقد قطع الحزب شوطا كبيرا نحو أسلمة المجتمع، وهو الآن سائر حثيثا نحو أسلمة النظام ولكن بذكاء وبصبر، مراعيا مطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي. فإذا تعثرت المساعي للانضمام أكثر، وأصيبت الحكومة بالمرارة والخيبة، فربما سوف تتسارع وتيرة أسلمة النظام.
لم يثبت لنا من كل تجارب الأحزاب الإسلامية أن أي حزب إسلامي يؤمن حقا بالديمقراطية، ولكنها جميعا تتبع تكتيك التقية وكتمان الأهداف الحقيقية. وهي لا ترفض الانتخابات وحريتها إن كانت تضمن لها مواقع في البرلمان وفي السلطة [ غزة، العراق، إخوان مصروالأردن، ألخ.]. ونعرف أن أردوغان كان قد تخرج من مدرسة دينية، وانضم لحركة quot;حزب الرفاه الإسلاميquot; لزعيمه نجم الدين أربكان. وفي 1980 حوكم أردوغان بتهمة التحريض على الكراهية الدينية والإرهاب لأنه قرأ قصيدة تقول:
quot; المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودناquot;. وقد حكم عليه بالسجن عشرة أشهر قضى منها أربعا ثم أفرج عنه.
إن يقظة الجيش وحراسته كانت عقبتين رئيسيتين أمام تيار الإسلام السياسي والقوى المحافظة. والجيش التركي، بذلك، يتميز عن جيوش المنطقة لدوره كحارس للعلمانية الأتاتوركية. ولكن انقلاب 1980 العسكري الدموي أساء دوليا لسمعة الجيش التركي رغم أنه، في حينه، كان يتمتع بشعبية ما لأنه فرض النظام في وضع كان يتميز بالصراعات بين اليمين واليسار. وقد رافقت الانقلاب انتهاكات كبرى من إعدامات واعتقالات بالجملة. وكان رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندرس قد أعدمه الجيش بتهمة التخلي عن العلمانية والاتجاه نحو أسلمة الحكم. .
لقد ولد اتجاه في المنطقة والعالم مناوئ لسيطرة الجيش على الحياة السياسية، سواء من تجارب فرانكو، وأميركا اللاتينية وآسيا، أو تجارب منطقتنا: انقلاب بكر صدقي في العراق، ثم انقلاب الضباط القوميين ورشيد عالي في 1940 - 1941، وانقلابات سوريا وليبيا. أما الانقلاب المصري، فقد تعددت فيه الآراء، ولكننا نعتقد أن إيجابيات التجربة الناصرية تكاد تنزوي أمام فرض نظام الحزب الواحد، والقائد الواحد، ومحاولة فرض الرأي الواحد- فضلا عن مغامرة اليمن، والتدخل في عراق الثورة. أما انقلاب 14 تموز العسكري، الذي تحول لثورة شعبية، فله حديث آخر بفضل شخصية زعيمه عبد الكريم قاسم، الذي كان علمانيا، ومتسامحا، ولا يحب العنف، ولم يقم نظام الحزب الواحد الشمولي.
المهم أن سمعة تعاطي جيوش المنطقة مع السياسة سمعة متدهورة عالميا، ومن هنا رأينا من الأوروبيين من يشجعون اردوغان على تقليص وتحجيم دور الجيش في الحياة السياسية، ولكن دون أن يدركوا الجانب الآخر والهام جدا، ونعني دور الجيش التركي كحارس لتجربة أتاتورك في وجه حزب إسلامي.
الوضع التركي معقد جدا، ومركب للغاية: فتركيا يقودها حزب إسلامي ولكنها لا تزال تعلن رسميا أنها علمانية. وتركيا لا تزال دولة مؤسسات وديمقراطية. وتركيا عضو في جلف الناتو، وتريد الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولها قوات في أفغانستان. ولتركيا، ورغم سحب من التوتر، علاقات كبيرة مع إسرائيل. إنه لخليط عجيب ومزيج فريد. وهذا وضع لا نراه سوف يبقى على حاله، فتناقضاته كبيرة، والتيار العلماني لا يزل قويا، وصراعه مع التيار الإسلامي لم ينته. وأحوال المنطقة مضطربة، والمشكلة الكردية لا تجد حلا معقولا رغم إشارات سابقة لأردوغان رحبنا بها.
إن quot;انتصار الديمقراطيةquot; في تركيا لا يكون بتدخل الحكومة في القضاء، ولا بالردة عن مكتسبات التجربة الأتاتوركية. والديمقراطية ليست في مجرد الانتخابات والاستفتاءات الحرة، ووحدها. والديمقراطية مرادفة للعلمانية، فلا ديمقراطية من غير علمانية. والبحث عن دور تركي إيجابي في المنطقة يتنافى مع التحالف مع إيران الخارجة على القانون الدولي، وهذا يتنافى أيضا مع طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي. كما أن الديماغوغية باسم القدس وفلسطين ليست الطريق للمساهمة الفعلية في خدمة قضية العدل والسلام في المنطقة.
نختم بأن نستعير، مرة أخرى، قول الأستاذ حازم صاغية في نقده لتمجيد الإعلام العربي لما يعتبرونه العثمانية الجديدة كقوة جديدة في وجه إسرائيل. لقد قال إننا إذا كنا نتمنى فعلا التقدم لتركيا، فلنتمن لها:
quot;أن تتطور وتسعى وراء مصالحها، لا كعثمانية جديدة، بل كدولة- أمة حديثة، بدأ مشروعها مع مصطفى كمال ولم تكمله حتى اللحظة.quot;
فهل سوف تكمله؟ أم سيقع الارتداد تدريجيا؟؟!