أسوأ أنواع الحكم هو الطغيان، ويعني الحكم بلا ضوابط وقانون، وبالعنف والابتزاز. والطاغية قد يأتي بانتخابات حرة كما حالة هتلر، وهذه حالة نادرة، أو أن ينتزع السلطة بانقلاب عسكري، أو بطرق أخرى. والطاغية قد ينجح في كسب شعبية طاغية بالتلاعب بعواطف الشارع أو بتوجيه الأنظار لعدو خارجي أو داخلي موهوم. وقد تتآكل هذه الشعبية مع مرور الزمن، ومع تكدس المظالم وتجاوز الطغيان مداه.
الطاغية يعتبر إرادته هي القانون، وأن الشعب رعيته التابعة، أي كعبيد، ويرى البلاد ملكه الشخصي، وهو يضرب معارضيه بالقوة والغدر، ويخنق النقد، وينشر الرعب سلاحا عند اللزوم. والطاغية قد يصل غروره حد الاعتقاد بأنه رسول العناية الربانية إن كان من المؤمنين.
إن الطاغية هو الشر المطلق. إنه بلا ضمير، لا تهمه دماء الملايين وإن كانت لأبناء جلدته، ولن يتوانى عن حرق البلد إن شعر أن سلطته في خطر أكيد. وفي التاريخ القديم والحديث أمثلة رهيبة ومعروفة: من نيرون، وإلى هتلر وستالين وماو وميلوسوفيتش وصدام وموغابي وعيد أمين دادا وغيرهم. أما صاحبنا القذافي، فهو اليوم النموذج الحي quot; الساخنquot;، الذي تتصدر أخبار قصفه للناس، بالطائرات وبالمدافع والرشاشات، مانشيتات صحف العالم وإذاعاته ومحطاته التلفزيونية- ولا فخر، بل يا للعار.
العقيد العتيد جاء بانقلاب عسكري حظي بدعم عبد الناصر والتأييد الشعبي، وكان من أوائل إجراءاته التخلص من منافسيه وكل صوت معارض. ألغى الدستور، وأحل الكتاب الأخضر محله. وألغى المؤسسات ليقيم نظام اللجان quot; الشعبيةquot; والمخابرات. وأعاد تكوين الجيش على أسس اعتباطية غير مهنية وعلى أسس قبلية، ومكن أبناءه وأفراد عائلته من تبوأ المراكز العسكرية، ومن الغطرسة داخل البلد وخارجه. ونعرف تصرفات بعض أولاده في جنيف وما كانوا يقترفونه من أعمال عدوانية، فإذا حاسبهم القانون الغربي، استعمل العقيد سلاح المال والابتزاز واعتقال رعايا تلك الدولة كرهائن. كما نعرف ما جرى للممرضات البلغاريات، ومعهن الطبيب الفلسطيني، من أعمال وحشية. إنه رجل لا يحترم قانونا، وقد علم أبناءه بالعقلية ذاتها. وقد بلغ به الغلو درجة تمزيق ميثاق الأمم المتحدة نفسها في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة. ونعرف دفاعه عن صدام، وكانت ابنته في مقدمة المتطوعين للدفاع عنه.
إنها غطرسة الغرور، وجنون العظمة، وجموح انتفاخ الذات، والشعور بالقدرة على ابتزاز الدول الأخرى [ الأوروبية خاصة] بسلاح المال والنفط والتهديد بفتح أبواب الهجرة غير الشرعية. وعندما كتبنا عن الحالتين التونسية والمصرية، أكدنا أكثر من مرة أن بن علي ومبارك لم يكونا طاغيتين دمويين، كما وصفا، بل كانا حاكمين فرديين، مستبدين بالرأي وبالقرار ولكنهما بالنسبة لصدام والقذافي شبه ملاكين.
خطاب سيف الإسلام، ومن بعده الخطاب الهائج للعقيد نفسه، جاءا معبرين كل التعبير عن حقيقة وطبيعة حكم الطغيان في ليبيا، هذا الحكم الذي لن توفقه، لا شرعة إنسانية ولا قانون دولي ولا شرعة دينية، عن الاستباحة والقتل الجماعي العشوائي، ولا تهمه شكاوى المواطنين ومظالمهم وينظر لهم وكأنهم quot; جرذانquot;، كما وصفهم، وحشرات سامة جاءت لخدش سلطته الربانية، بل ويسلط على أبناء شعبه مرتزقة أجانب مباعين بالمال الحرام. وذلك منتهى الطغيان والاستهتار.
الشعب الليبي قد ثار، بعد أن بلغ الظلم مداه، مع تأثير ما حدث في مصر وتونس وبقية الشوارع العربية. وما يميز الحالة الليبية التشرذم والعصبيات القبيلة التي هاجت فجأة، وهيجها القذافي نفسه بخطابه المرتعش المزبد المرعد، والذي فقد كل توازن وعقلانية، وكل إدراك، ولو بسيط، لخطورة وضع البلد وعمق السخط الشعبي والعزلة الدولية. إنه خطاب ينذر بما هو أدهى وأكثر فظاعة مما جرى لحد اليوم من مذابح جماعية، وإذا تواصلت هذه الجرائم، فإنها تعني حرب إبادة منظمة وجرائم ضد الإنسانية.
إن هذا الطغيان الدموي سيستمر ما لم يصطدم بقوة الزخم الشعبي وتفكك القوات المسلحة وانحيازها للشعب، وبردع دولي حازم من عقوبات وإجراءات أخرى. ونقول، ما من طغيان في التاريخ قد دام، وما من طاغية قد لقي مصيرا يحسد عليه!
الوضع خطير، ليس فقط بسبب المذابح الرهيبة، بل، وكذلك خطر السير نحو المجهول في منطقة مليئة بالأخطار والتحديات. ومهما كان، فالمسئولية تقع حصرا على حاكم ليبيا.