الحلقة الأولى |
استعرضنا في الحلقة الأولى عددا من مظاهر في الوضع العراقي تجعله، في رأيي، وضعا مأزوما ومنفتحا على أخطار أكبر؛ وتجب إضافة ظواهر خطرة أخرى، سبق أن توقفنا لديها في مقالات عديدة سابقة، كتهميش حقوق المرأة، ومحنة الأقليات الدينية، والمسيحيين خاصة.
في الحلقة الأولى، رأينا من الفائدة افتتاح المعالجة بشيء عن خصائص وفضائل عبد الكريم قاسم كنموذج للحاكم الوطني المخلص لشعبه، رغم أخطائه الكبرى؛ وسبق أن استشهدنا بدور الملك فيصل الأول في حبه العميق للعراق والعراقيين رغم أنه لم يكن عراقيا، وإصراره على انتزاع ما يمكن من حقوق العراق الوطنية في ظروف صعبة ووسط ضغوط متعددة الأطراف، ومساعيه المخلصة لحل معضلة بعض مظاهر التعصب الطائفي ضد الشيعة لدى فريق من الحكام الذين تخرجوا في المدارس العسكرية العثمانية. وقد حاول الوصي عبد الإله، في السنوات العشر لما قبل الثورة، السير في الطريق نفسه لحل المشكلة المذهبية، فتولى ساسة شيعة رئاسة أربع حكومات بينما كانت الرئاسة منحصرة في ساسة السنة. كما كان أحيانا يشكل هيئة وصاية- حين غيابه عن العراق- من ثلاثة سياسيين كان اثنان منهم من الشيعة، وهما محمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر.
لقد تعددت التفسيرات والتحليلات لفهم أساب وجذور ما وصلت إليه الحالة العراقية، وهي، كما أرى، أسباب داخلية متشابكة: تاريخية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، ودينية مذهبية، وأسباب وظروف إقليمية، ودولية. من ذلك:
1 - ما ورثه عهد ما بعد النظام السابق من خراب ثقافي، وسياسي، وأخلاقي، ومن تبعات وعواقب سياسات التمييز الطائفي والعرقي، والحملة quot; الإيمانيةquot; الغوغائية التي قامت لمنافسة إيران والسعودية، وأدت للضغط على المرأة وشجعت على التقوقع الديني؛
2 - تخلف المجتمع، وانتشار الأمية والجهل، ونشاط التقاليد والعنعنات العشائرية،التي انتعشت في أواخر العهد السابق وفق سياسة مقصودة، لتزيد انتعاشا وصخبا في العهد الحالي مع مجالس الإسناد التي أسسها المالكي لدعمه شخصيا؛
3 - دور تخبط السياسة الأميركية في ما آلت إليه الأمور وعدم نجاح مشروع الديمقراطية العراقية، باستثناء انتخابات مكوكية ولكنها قائمة على الولاءات الضيقة وليس على مبدأ المواطنة والبرامج السياسية الوطنية، ويحلو للبعض وصف هذه العملية السياسية بquot;الديمقراطية الطائفيةquot;، وهي نظام المحاصصة القوقعية، الفئوية وهو نقيض الديمقراطية وتزييف لمبدأ التعددية والائتلافات الوطنية السياسية؛
ومن الأخطاء الأميركية الكبيرة ترك الفوضى سارحة بعد انهيار النظام السابق، ولأيام، مما شجع كل أعداء الأمن والاستقرار، ومحترفي العنف والجريمة، والبقايا البعثية الصدامية، والمليشيات المسلحة المستمرة لحد اليوم برغم أنف الدستور والقانون وقائمة القانون!؛
وهناك الرضوخ الأميركي لضغوط الأحزاب والشخصيات المعارضة، والشيعية خاصة، بحل المؤسسات، والإعلان عن حل الجيش، وخلق هيئة quot;اجتثاث البعثquot;، التي وضعت في أيد ساسة مغرضين غير موضوعيين، [ هتف منهم من هتف عند سقوط صدام بقوله quot; سقطت دولة السنّةquot;]، بدلا من وضعها في أيدي هيئات قضائية مستقلة ونزيهة، [ اعترف بريمر فيما بعد بهذا الخطأ الفادح]- مما أدى لاستبعاد مئات الآلاف من الكوادر والموظفين، وخاصة في سلك التعليم، وخلط المجرم بالبريء من الدم، واستخدام الهيئة لاحقا سلاحا انتخابيا لاجتثاث كل من لا يروق للأحزاب الشيعية؛
الانجرار وراء ضغوط الأحزاب والجماعات السياسية والدينية العراقية، وبعثة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، والحملات الدعائية العربية الهائجة، بوضع جدول زمني متسرع ومرتجل لنقل السلطة والانتخابات، مع أن فريقا من المثقفين الديمقراطيين الوطنيين طالبوا بتأجيل الانتخابات، ووضع شروطها ومستلزماتها أولا، والإبقاء على الدستور المؤقت بدلا من الهرولة لوضع دستور متناقض وإسلامي الوجهة- أي كان يجب، في نظري، تطويل الفترة الانتقالية، وبقاء مجلس الحكم وحكومته [ حكومة إياد علاوي] فترة زمنية أخرى قبل الانتخابات التي جرت وفق معايير قوقعية، طائفية وعرقية- علما بان عقلية ومعايير المحاصصة الطائفية ثبتت في مؤتمر لندن قبيل الحرب؛
3- من الأسباب الهامة جدا التدخل الإقليمي المتزايد، وخاصة التدخل الإيراني المحموم، مقرونا بسلبية دول الجامعة العربية والإعلام العربي تجاه الوضع الجديد، ودخول القاعدة وشبكاتها الإرهابية المجرمة في الميدان، تقابلها مليشيات شيعية مسلحة مدعومة إيرانيا، تضاف إليهم بقايا البعث الصدامي متربصة ومتحفزة؛
4 - أما السبب الأكبر والاهم لكل مصائب الوضع ومنزلقاته ومآسيه، فهو- كما أعتقد- أزمة العقلية السياسية العراقية المتصفة بنزعة الاحتكار، وبالعنف والميل لاستبعاد الآخر وتخوينه وتجريمه، ورفض النقد والنقد الذاتي، ومن ثم تكرار أخطاء الماضي في أوضاع جديدة. إن العقلية السياسية العراقية، وبكل التيارات السياسية وألوانها، مع اختلافات في الدرجة، تعودت، في فترات المعارضة، على طلب ما هو غير ممكن في الظرف المعين، ورفض مبدأ quot;ما لا يدرك كله لا يترك جلهquot;- أي الافتقار للمرونة السياسية، وتحويل الرغبات والأماني إلى واقع، ونزعة الإرادوية. إن هذه العقلية السياسية المتشددة وغير المرنة، بل المستبدة، استخفت بكل النواحي والإجراءات الإيجابية للعهد الملكي، وهاجمتها، ومنها مجلس الإعمار واتفاق المناصفة النفطي، وهي لم تكن تسلك غير موقف المعارضة لغرض المعارضة لكل خطوات أية حكومة وإن كانت لصالح البلاد. وقد انفجرت هذه العقلية انفجارا مدويا وكارثيا ودمويا في أيام ثورة تموز، وخصوصا لدى الأحزاب المؤدلجة، فاشتعلت المعارك والصدامات، وراح القوميون يطالبون بوحدة فورية مستحيلة، والشيوعيون يقدمون مطلبا بعد آخر، ويتصرفون وكأنهم أوصياء على الثورة، ويحفزون الشارع على مطلب الإعدام، والجادرجي يقف موقفا متزمتا من عبد الكريم قاسم ويرفض حتى تكليفه بوضع مشروع دستور دائم، والأكراد ينزلقون لرفع السلاح، وهكذا؛ وبعد سقوط النظام البعثي الصدامي، انفتحت شهية المغانم والامتيازات والمناصب، وغرائز استئصال الأخر، وغاب المعيار الوطني العام، وراحت القوى السياسية والدينية الشيعية تبالغ في النفخ في نغمة مغبونية ومظلومية الشيعة وكأنها تحتكر هي حصرا تمثيل الملايين من شيعة العراق، و قامت بتأسيس ما دعته ب [البيت الشيعي] الطائفي، وراحت تطالب بquot;حاكمية الشيعةquot; قانونا للحكم، مما شجع التقوقع المذهبي لدى الطرف الآخر. ومن هنا، فإن من الخطأ إلقاء المسئولية كلها على إرث العهد السابق، أو على تخلف المجتمع والجهل وتدهور القيم في تلك الفترة، أو على الشماعة الأميركية، كما يفعل الكثيرون من الساسة والكتاب العراقيين، وأخر ما عرفنا صدور كتاب الرمز الإسلامي السفير حميد البياتي بالإنجليزية يبرئ فيه حزبه [المجلس الأعلى] والبقية، ويلقي بكل المسئولية على الطرف الأميركي، فيما تقع المسئولية الأولى على القيادات السياسية والدينية العراقية، دون إسقاط العوامل الأخرى، ومنها طبعا التخبط الأميركي.
إن نزعة التقوقع المذهبي شجعتها الفترة الأخيرة من العهد السابق بساسة التمييز تجاه الشيعة، فهل قامت القوى السياسية والدينية الشيعية بمكافحتها أم بزيادة إلهابها وإشعالها؟ فهي راحت تدغدغ المشاعر المذهبية، وتحرض على الزيارات المليونية برغم الخطر الأمني، وتقوم بتعطيل المدارس والدوائر الحكومية، في متاجرة فاضحة بالطقوس المذهبية لغايات سياسية، وحزبية، وشخصية.
كما أنه من الصحيح أن الفساد كان قائما في العهد السابق، ولكنه كان منحصرا في العائلة الحاكمة والحاشية، وخاصة في الكوبونات النفطية؛ فهل كافح الحكام الجدد الفساد أم زادوه انتشارا أفقيا وعموديا، ولم يكتفوا بالملايين، بل صار المليون quot;خردةquot;، والهدف هو البلايين. وقد quot; ضاعتquot; البلايين بعد البلايين، وأي ضياع ndash; [كيف ضاعت؟ لست أدري!!!] كما أن أية جرائم وجنايات كبيرة وأية سياسات مغامرة للعهد الصدامي لا تبرر هذا الاندفاع المحموم وراء نظام الفقيه، والصمت حتى عن القصف الإيراني المتواصل للأراضي العراقية، والرضوخ لإرادة إيران في إبادة سكان أشرف، ومسايرة الموقف الإيراني من الوضعين السوري والبحريني.
أما التعكز على تخلف المجتمع، فلننظر لعراق العهد الملكي، الذي ورث تركات أربعة قرون من الاحتلال والتخلف العثمانيين، وهيمنة القوى الدينية الرجعية، ومع ذلك، فقد ظهرت فيه نخبة [ حكاما ومعارضين] من المصلحين والقيادات السياسية الوطنية والديمقراطية المنطلقة من مصلحة العراق، وبرغم الأخطاء الكبيرة، فإنهم كانوا ينطلقون من مبدأ المواطنة وهو مما يقلل من وطأة أخطائهم؛ ولو قارنا العهد الملكي بأوضاع اليوم، لوجب اعتباره عهدنا الذهبي. ففي ذلك العهد، ورغم كل مظالم الإقطاع وتزييف الانتخابات وحملات القمع من وقت لآخر، وتدخل العسكر في الشأن السياسي، فإن ذلك العهد وضع أسس مؤسسات الدولة الحديثة، وشهد العراق نهضة تعليمية راقية، وازدهار الفنون، وظهور كبار الأدباء والفنانين والعلماء ومفكرين كبارا كالوردي، وحركات التجديد، وتحققت إنجازات عمرانية واقتصادية مهمة، دون نسيان الجوانب الكالحة والسوداء لذلك النظام.
إنه لمن النادر عندنا، وربما عربيا أيضا، أن يقوم السياسي أو الحزب السياسي بمراجعة نقدية موضوعية لأخطائه الماضية، ويعترف بها علنا، ويقوم بتصحيحها. وقد كتبت في حزيران من عام 2003 [ بعيد سقوط النظام السابق] في صحيفةquot; الزمان:
quot; شهد العراق منذ حوالي نصف القرن تقريبا سلسلة متواصلة لا تنقطع من أعمال العنف وسفك الدماء، حتى وصوله للعهد الصدامي، من قمع دموي متواصل، وحروب داخلية وخارجية؛ وقد ساهمت القوى الوطنية، بدرجات وأشكال مختلفة، في تلك المآسي ولكن دون اعتراف غالبيتها بالأخطاء، مع أن النقد الذاتي ليس فقط غسلا للضمائر، وإنما هو واجب وطني للاستفادة والعبرة والاتعاظ، حيث أن دروس أمس تساعد على تلمس الطريق وتجنب تكرار الخطأquot;. وفيه أيضا: quot;إن الدعوة لثقافة الاعتراف بالآخر، وترسيخ التسامح لا تعني أبدا دعوة للتساهل مع المتهمين بارتكاب الجرائم ضد شعبنا ومصالح بلادنا. كلا أبدا، ولكنها تعني الدعوة لإرساء مبادئ سيادة القانون ودولة المؤسسات، ورفض جميع أنواع التجاوزات على حريات المواطنين، وتحت أية لافتة كانت. لقد أنهكت العراقيين عهودُ الطغيان الدموي والمجازر والمقابر الجماعية، وقد حان لنا جميعا أن نتعلم ونمارس الأساليب الديمقراطية والقانونية في مجال العلاقات العامة في المجتمع، والدين الحنيف لا ينبغي اتخاذه جسرا للسلطة الدنيوية ولا لتصفية الحسابات..... لقد فشلت فشلا ذريعا جميع الانظمة الشمولية المنغلقة، القائمة على ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة.. إن الساعين اليوم لقيام نظام إسلامي في العراق ينتهكون مبادئ الديمقراطية، ويتجاهلون طبيعة مجتمعنا التعددي في تكويناته، كما يتجاهلون فشل ومآسي ما قام في العالم الإسلامي من هذه الاأظمةquot;. وانتقد المقال، [ونحن لا نزال بعد أسابيع قليلة من العهد الجديد]، الأحزاب والتنظيمات والشخصيات ذات التوجه الديمقراطي، واللبرالي، والعلماني لتركها الميدان للطائفيين والمتشددين، وعدم القيام بحملات توعية كافية، بكل الأساليب السلمية المتاحة، لمكافحة الأفكار والظواهر الضارة، ونشر أفكار التنوير الديمقراطي. وبعض هذه القوى الديمقراطية أخضع النقد الضروري والواجب للتحالفات مع هذه القوة السياسية أو تلك مع أن التحالف لا يستبعد النقد بل هو من لوازمه.
التعليقات