quot;أحب عبد الكريم قاسمquot; هذا ما قاله سائق التكسي العجوز ونحن نجتاز احدى البوسترات المحتفلة بذكرى ثورة الرابع عشر من تموز 1958.
جواب متوقع، رجل من اسرة مسحوقة لابد ان يتعامل مع عبد الكريم قاسم بهذا الحب، انها عاطفة تجاه حاكم احب فقراء الشعب، وسعى الى معالجة مشكلاتهم. بعد قليل سألته ما رأيك بنوري السعيد رد بدون تردد الباشا كان سياسيا محنكا ومحترما وكان العراق يحكم بالقانون في عهده.
بعد 53 سنة عاطفة الكثير من العراقيين ما زالت لعبد الكريم قاسم زعيم quot;ثورةquot; الرابع عشر من تموز، ولكن عقلهم يحترم نوري السعيد رئيس الوزراء الاشهر في العهد الملكي الذي اعدمته تلك الثورة وسحلت جثته في شوارع بغداد في مشهد الحبال الذي كان نقطة الشروع في العنف الجاري.
فقاسم في لغة العواطف، هو رجل احب مواطنيه، وتحديدا الطبقات الفقيرة، وتقول الكثير من الاحداث والشهادات ان نواياه كانت حسنة، وله من المواقف النبيلة ما يفوق مواقف اي حاكم عراقي اخر. وهو بحسب ما يتناقله الناس لم يملك دارا، ولم يستخدم السلطة للاثراء.
وفي المنظار العقلاني فان الرجل متفرد في الحكم، ثورته مكنت العسكر من التحكم بنبض السياسة العراقية، وفتحت الطريق للاحزاب الشمولية بكل اشكالها للتحكم بنبض الشارع بشكل علني فادخلوا العراق في دوامة الخوف.
كما انه اخفق في منع البلاد من الدخول في مواجهات خارجية غير محسوبة العواقب، هو ايضا سمح لظاهرة سحل بعض رموز النظام الملكي السابق بالحبال في الشوارع، وفي عهده عقدت محكمة المهداوي سيئة الصيت. واخفق ايضا في تشكيل برلمان حقيقي واجراء انتخابات رغم انها كانت من شعارات الثورة الاساسية.
وينقل اكثر من مؤرخ وشاهد على تلك الحقبة ان محمد حديد وكامل الجادرجي زعيما الحزب الوطني الديمقراطي، وهو حزب يوصف بالليبرالي سياسيا، طلبا من عبد الكريم قاسم الاستعجال باجراء الانتخابات وكتابة دستور دائم للبلاد ووضع اسس سليمة لتناقل السلطة سلميا، لكنه لم يستجب وكان يتعلل بالظروف الموضوعية، بمعنى ان النصيحة باتجاه حكم مدني لم تغب عن اذن قاسم.
الى جانب تلك المساوئ، فانه قام بخطوات مهمة وايجابية مثل رفع مستوى الوضع المعيشي للطبقات الفقيرة باجراءات بعضها صحيحة، واصدر القانون 188 الاكثر مدنية وانصافا بين كل قوانين الاحوال الشخصية في العراق بل وفي المشرق العربي، ايضا ضمت حكومته اول وزيرة في العالم العربي، وفي عهده تعينت امرأة في سلك القضاء وهي الاولى في المنطقة، وايضا ضمت الحكومة الاولى التي تشكلت بعد الثورة وزراء من طبقات اجتماعية متعددة، اضافة الى ان سياسته توصف بانها الاقل طائفية بالقياس الى غيره من الحكام.
قاسم رجل مثير للجدل فعلا، اختلف حوله العراقيون، بل واختلف الفرد الواحد في تقييمه بين عواطف ميالة وعقلانية منتقدة.
ومهما قلنا عن تلك المرحلة فانها اصبحت ماض، وزعيمها ما عاد بيننا منذ نصف قرن، الاهم الان تقييم تلك اللحظة الثورية بعد كل هذه العقود، ماذا انتجت والى اين انتهت وهل فشلت ام انها كانت في جوهرا عملا منحرفا؟
من المؤكد ان العهد الملكي كان يعاني من سياسات مخطئة، تحديدا فيما يتصل بالوضع الداخلي الاقتصادي والاجتماعي، فهناك طبقية حادة داخل المجتمع، وعانى العراق من حفنة سياسيين تداوروا الحكم بينهم، ولم يلتفت نوري السعيد وغيره من رؤساء الحكومات الى معالجات سريعة وجذرية للاختلالات الاجتماعية والاقتصادية.
غير ان 38 سنة من الحكم الملكي كانت علاجا لاربعة قرون مظلمة من الحكم العثماني. فالعصر الملكي فترة شبه ليبرالية واقل دموية من كل العصور، وكان العراق بحاجة لها كي يخرج من التخلف الذي عمقت من وجوده واسست له الخلافة. علما بأن اربعة عقود لا تكفي لمعالجة وضع منحرف لاربعة قرون.
خصوصا وان العراق في تلك المحطة كان يعيش صراعا اقليما ودوليا شغله كثيرا عن المعالجات الداخلية، فهناك الصراع مع الشيوعية العالمية، وصراع اخر مع الايدلوجيا القومية بصيغة جمال عبد الناصر وخلافات مستمرة مع كل من السعودية وايران، وبلد مجاور غير مستقر هو سوريا، بل ان العراق تأثر حتى باحداث الحرب العالمية الثانية التي استثمرها رشيد عالي الكيلاني وقام بانقلابه العسكري الفاشل ولكن المؤثر كثيرا على جسد الدولة العراقية.
رغم ذلك ورغم الاخطاء والسياسات اللامبالية تجاه الظواهر الخاطئة في المجتمع والمعالجات البطيئة للمشكلات الداخلية، فان العراق كان على السكة الصحيحة، سكة بلد يريد ان يكون اكثر ليبرالية واكثر مدنية ولكن بخطوات هادئة وغير مثيرة للجدل.
بتعبير ادق ان الاصلاح كان ممكنا جدا في العهد الملكي كونه اكثر مرونة وقابلية على الاصلاح من أي عهد ثوري او جمهوري لاحق. لذلك كانت الثورة نهاية لعهد قابل للاصلاح بعهد اخر اضاف ازمات جديدة.
النقطة التي انطلقت منها ثورة الرابع عشر من تموز هي عراق ذو توجهات عقائدية وسياسات صدامية او عدائية واساليب مرتجلة. انها بعناوين مختصرة، عسكرة السياسة وادلجتها وتحويل العراق الى بلد محارب، وتقسيم الشعب الى ثنائيات حادة وخطيرة ومدمرة، وتفصيل الوطن على مقاسات الحكم وليس على مقاسات الشعب.
بتفصيل اكثر، ان انقلاب شباط 1963 الدموي وانقلاب تموز في 1968 ومجيء صدام للحكم، ومجازر الحرس القومي وانتهاكات المقاومة الشعبية وحروب العراق كلها ما كانت لتحصل لولا ان نجح العسكر واحزاب quot;العقيدةquot; من التحكم ببغداد ورسم كل تفصيلات الحياة السياسية في العراق.
البعض يفسر الثورة بحتمية كان لابد ان يمر بها العراق، كون الشعب تواقا الى التحرر من الفترة الملكية باعتبارها عهدا quot;استعمارياquot;، ولكن التفسير المقنع، هي انها جاءت في لحظة غفلة، تسببت بها السياسة البطيئة للعهد الملكي، والامعان في توجيه التفكير الجماعي باتجاه شعارات طنانة كان يمكن للمجموع ان يكون اكثر وعيا في التعاطي معها لولا تشويهات احزاب العقائد الكبيرة للوعي الاجتماعي. فتلك الاحزاب استثمرت الفقر من جهة والشعارات القومية من جهة اخرى لتوجيه العقل الجمعي نحو الوعي الخطأ.
لذلك ما قام به الضباط الاحرار في صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 لم ينحرف بل كان منذ بداياته فعلا خاطئا، انه حمل في داخله بذرة الاضرار بشعب العراق. واليوم بعد 53 سنة، خسر الناس الكثير من الزمن مقابل انتكاسات متعددة وقاسية ما كانت لتحصل لولا ان الثورة وما بعدها من عقود كانت مشوهة..
ان جريرة الثورة ليست فقط في انها قضت على مرحلة كان يمكن اصلاحها، بل في انها ايضا فتحت الباب امام عقود من الخوف، فمنذ 1958 وحتى 1979 حكم العراق اربعة ضباط كانوا قادة الثورة، لكنهم الى جانب ذلك مهدوا الطريق امام حكم الدكتاتور الاكثر عنفا واستبدادا في تاريخ العراق واحد اكثر طغاة العالم المعاصر اساءة للانسان.
ويختصر فوزي كريم تلك التراتبية في ولادة الخوف العراقي بمقطع جميل: quot;طلع الجيل الستيني... على بستان قد تمكنت منها اشجار الشر تماما. اسهم في تغذيتها هو الاخر، ورعاية اغصانها، وقطاف ثمارها. ولكن ساعة القطاف فاجأته بثمار مرة المذاق حقا. ماكان احد من اطفال الليل الحمقى ليتوقع ان يكون صدام حسين واحدة من الاشجار التي اكلت الغاب جميعاquot;
ان جمهورية الخوف ولدت في تموز عام 1979 عندما وصل الدكتاتور الاكبر الى الحكم، لكن حملها بدء في تموز 1958 ومخاضها كان في تموز 1968.. انه تموز المجيد.