المتابع للاصطفافات السياسية في ايران يلاحظ ان الكثير من الاصلاحيين الذين ظهروا بعد فوز محمد خاتمي بالرئاسة كانوا ضمن اصطفاف المتشددين.
طريق الكثير من المعتدلين الايرانيين غالبا ما يمر بالتشدد.. فكثير من الزعامات الاصلاحية في ايران مثل مهدي كروبي وعلي اكبر محتشمي وعبد الله نوري ومير حسين موسوي بل وحتى ناطق نوري لم تكن اصلاحية بل كانت تصنف على خط المتشددين او المحافظين، تحديدا في السياسة الخارجية.
وربما تشهد السنوات المقبلة متحولين جدد. فما يحصل في الاونة الاخيرة من خلافات بين المرشد والرئيس يشير الى احتمال ان ينتقل نجاد من متشدد عقائدي ذائب في ولاية الفقيه الى موقف اكثر ليونة واقل استسلاما لخامنئي.
الخلاف يتصاعد حول الحوار مع الولايات المتحدة فيما يخص الملف النووي حيث تشير التقارير الى ان نجاد يبدي ليونة يرفضها المحافظون بشكل قاطع، وهناك ايضا الخلافات الاخيرة حول بعض التنقلات في المناصب الحكومية مثل موضوع وزير المخابرات وقضية دمج وزارتي النفط والطاقة وبعض التفصيلات الحكومية الاخرى.
الظاهر من الخلاف يكشف عن جانب اكثر عمقا، فهو في واقعه ينتمي الى الصراع الايراني المستر بين الشرعيتين الالهية والشعبية، وهو صراع انتج خلال السنوات العشرين الماضية من عمر الجمهورية جبهتين احداهما محافظة تدافع عن ولاية الفقيه والاخرى اصلاحية تسعى لتحجيم صلاحيات المرشد او تقويضها.
فالصراع بين المنصبين بدء منذ اللحظة الاولى للثورة، عندما تم عزل اول الرؤساء بعد الثورة ابو الحسن بني صدر عن منصبه. حينها كانت شخصية مؤسس الدولة الاسلامية في ايران قادرة، لعوامل عدة، ان تفرض نفسها على أي منصب خصوصا مع كثافة الدعم الشعبي لفكرة الدولة الدينية وولاية الفقيه انذاك.
وبعدها بقيت معركة الصلاحيات بين المنصبين ضمن توازنات القوى ثماني سنوات عندما كان رفسنجاني رئيسا للجمهورية، وقتها لم يكن بامكان المرشد خامنئي الا القبول بتقاسم الصلاحيات مع الرئيس القوي مع الاحتفاظ بتدخلات شكلية يفرضها الدستور الديني الايراني.
ضيق دائرة نفوذ المرشد هي التي اتاحت لخاتمي ان يصبح رئيسا للجمهورية بعد هزيمة المرشح الاخر المدعوم من المحافظين. الا ان هذه الدائرة اخذت بالاتساع فخاتمي الذي يمتلك كارزما الاصلاح والتأثير الشعبي لم يكن قادرا على تكرار تجربة سلفه في الدفاع عن صلاحيات quot;الشرعية الشعبيةquot; لدرجة انه في السنتين الاخيرتين من رئاسته اصبح رئيسا بدون صلاحيات.
واعطت فترة خاتمي المرشد خبرة كافية في السيطرة على الرئاسة، وهي خبرة جعلته يدعم تجاد المرشح الذي لا يملك النفوذ والتأثير في المؤسسة السياسية والحرس الثوري ويملك العقيدة الكاملة بولاية الفقيه ليتسنى ان يكون المنصب تحت نفوذ الولي بشكل كامل.
الا ان الخلافات الاخيرة ودور مجلس الشورى القريب جدا من مرشد الجمهورية في مناكفة رئيس الجمهورية يكشف ان المنصبين دخلا من جديد مواجهة اخرى. وهي تقاطعات قد لا تأخذ وقتا طويلا حتى تظهر بقوة لأن نجاد يدرك ان ورقته ما عادت ضرورية بعد ان استخدم في سد الطريق امام مير حسين موسوي.
ان معركة الرئاسة التي شهدت اصطفاف كل المحافظين خلف نجاد انتهت، والتحضير الان للانتخابات المقبلة التي لم يبرز فيها وجه بارز من المحافظين المنقسمين، ونجاد يبدو اكثر اندفاعا في طرح خياراته مستثمرا الانقسام. فهو يحضر نفسه لمعركة الرئاسة عبر طرح بعض الوجوه السياسية المقربة لديه، وهو ما يهدد من جديد نفوذ المرشد.
وسط هذا الصراع تدرك ولاية الفقيه في ايران ان زخمها الديني الذي ولد لحظة الفورة الايدلوجية الاسلامية في ثمانينات القرن الماضي ما عاد متوفرا بنفس القوة والنشاط، شرائح كبيرة من الشعب الايراني بدأت تبحث عن صيغة جديدة في العيش تتقاطع مع ما تريده حكومة فقيه يستلهم شرعيته وصلاحياته من حكم النبي.
واذا كانت الشرعية بصيغتها الاسلامية مبررا كافيا للحكم والسيطرة على الناس في السابق فإن التطور في مستويات الوعي داخل المؤسسة الثقافية الايرانية بل وحتى الدينية، احرجت الشرعية التي يستند عليها المرشد خامئني ويروج لها.
التساؤلات حول الاستبداد الديني باعتباره شكلا من الاستبداد لا يختلف عن استبداد النظام الذي سبق الجمهورية الاسلامية تساؤلات تطرح داخل اوساط متعددة سياسية ودينية وثقافية واجتماعية، وهذا ما احرج المحافظين وجعلهم يبحثون عن تبريرات وحجج جديدة.
هذه التساؤلات والضغط السياسي كانت احدى العوامل التي دفعت ولاية الفقيه في ايران منذ انتخابات عام 2005 لتعمل على ان يكون الفائز في الانتخابات هو الشخص المدعوم من قبل quot;شرعية السماءquot; كي تكون صلاحيات المرشد اكثر شرعية، باعتبار ان انتخاب الشعب للرئيس نابع من دعم المرشد له، اي ان الفائز في الانتخابات هو الشخص المدعوم من قبل ولي الفقيه للايحاء بأنه لم يكن ليفوز لولا ذلك الدعم، وهكذا تكون شرعية الشعب امتدادا لشرعية السماء.
لذلك يبدو مستحيلا ان تسمح المؤسسة السياسية والحرس الثوري المواليان لرأس هرم السلطة quot;الربانيquot; بظهور أي قوة جديدة لا تستمد شرعيتها الشعبية الا بمباركة شرعية quot;ولاية الفقيهquot;... لأن هذا اولا يقوض من اسس ولاية الفقيه وشرعيتها وثانيا يسمح لمراكز قوى اخرى ان تزاحم على الصلاحيات.
ويدرك نجاد جيدا ان بقاءه في دائرة المحافظين لن يضيف شيئا لمستقبله السياسي الذي وصل الى القمة، فالمرشد لا يسمح بظهور قوة اخرى تخلف ما كان رفسنجاني يشغله من وجود. واستمرار نجاد من خلال حليف له سيؤدي بالضرورة الى نشوء قوة جدية تؤثر على توازنات يسعى خامنئي للامساك بخيوطها دائما.
فهل سيكون خيار نجاد هو الانتقال الى اصطفاف جديد يدعم مستقبله السياسي؟
ام ان ما يقوم به الرئيس الايراني مجرد تلويح للتهديد بافراغ معسكر المحافظين من احد رموزه كي يدعم بقاءه كأحد رموزه؟