سنة 1979 وفي استفتاء دستوري اختار الايرانيون في استفتاء عام نظام quot;الجمهورية الاسلاميةquot;.. وفي العراق وبعد سقوط نظام البعث اختار غالبية الناخبين العراقيين لاكثر من مرة ممثلين من احزاب اسلامية ليكونوا نوابا عنهم في البرلمان، واختار الاتراك الاسلاميين ممثلين عنهم في اكثر الدول المسلمة علمانية. وفازت حماس الدينية الاصولية باغلبية ساحقة على حساب منافستها فتح العلمانية في اخر انتخابات جرت على الاراضي المحتلة. وفي الكويت هناك حضور لافت لحركات الاسلام السياسي السنية والشيعية والسلفية ضمن تشكيلة مجلس النواب.

نجاح الاسلاميين في هذه التجارب بكسب ثقة الشارع يدل على ان دورهم في الحكم سيكون الابرز في أي تجربة مقبلة تأتي من خلال صناديق الاقتراع او الثورة الشعبية. وهذا ما حصل فعلا في تجربة الاستفتاء على التعديلات الدستورية بمصر حيث نجح الاسلاميون بالحصول على quot;نعمquot; لدى اغلبية المستفتين رغم ان كل القوى السياسية غير الاسلامية المعارضة لنظام مبارك السابق دفعت باتجاه الـ quot;لاquot;.
ولذلك المخاوف من ان تؤدي التغييرات الحاصلة في تونس ومصر الى نفوذ اسلامي واسع مخاوف مبررة، لان القوى الاسلامية نجحت منذ عقود في استثمار الفشل المزمن للسلطة في سياستيها الداخلية والخارجية واستثمرت الخطاب الديني مع مجتمعات محملة بمخزون واحلام ومخاوف وامال دينية متراكمة، لتعزيز نفوذها باعتبارها بديلا عن السلطة quot;العلمانية الظالمة او الكافرة الفاشلةquot; ..
وجدية هذه المخاوف لا تقتصر على التجارب التي نجحت فيها الثورة بل تعبرها نحو تحركات شعبية اخرى مثل ليبيا واليمن والبحرين وسوريا. فليس مستبعدا ان ينجح الاسلاميون السنة في ان يكون لهم اليد الطولى بحكم مصر وتونس بطريقة واخرى، ومحتمل جدا ان يكون اي تغيير في ليبيا واليمن وسوريا لصالح قوى الاسلام السياسي السنية. والبحرين هي الاخرى لا تخرج عن هذا السياق مع فرق بسيط ان القوى الدينية البحرينية النافذة هي قوى شيعية بعضها يؤمن بولاية الفقيه.
فليس بالضرورة ان تنتج الثورات انظمة مدنية بالكامل كما قد يظن البعض، لان الاسلاميين يملكون مساحة نفوذ واسعة، واثبتت التجربة مع الاسلاميين انهم لا يملكون رؤى ديمقراطية حقيقية، وان برامجهم لن تنتج دولة مدنية حديثة، حتى وان ادعوا ذلك. ومن المتوقع ان هذه القوى ستعمل بكل ما تستطيع لتديين المجتمع، واسلمة السلطة والدولة والدستور..
والعراق نموذج يثبت ان القوى الاسلامية لا تتوانى عن استثمار اي فرصة متاحة لتنفيذ اجندتها الدينية على حساب الحريات المدنية والمباديء الانسانية الحديثة، وان فشلت في ذلك فلأن بقايا الحياة المدنية في العراق مازالت عائقا امامها، كما انها تدرك جيدا صعوبة المضي بعيدا في اي مشروع ديني شمولي مع وجود الراعي الامريكي الذي لا تريد استفزازه بقوة في الوقت الحاضر.
الا ان جدية هذه المخاوف يجب ان لا تصبح سببا لرفض التحولات السياسية والانتفاضات، لان هذا الرفض بمبرر انها ثورات ستنتج حكم quot;الثيوقراطيةquot; او قوى الاسلام السياسي لن يؤدي الا الى مزيد من التأسيس لدكتاتورية بعلمانية شكلية نتائجها قد تكون اسوأ من ديمقراطية يحكمها الاسلاميون.

سيقال ان الاسلاميين في المستقبل يستثمرون الديمقراطية كي يحكموا قبضتهم على السلطة والمال والمجتمع وبعد ذلك ينقلبون عليها.. هذا الكلام ممكن جدا، غير انه ليس مبررا. لان المجتمعات العربية خلال قرن من الزمن، كانت محاصرة بين سلطات رسمية عسكرية او شمولية او دكتاتورية قمعية وسلطات اخرى دينية غير رسمية تتحكم بنسقها وتفكيرها وقناعاتها بما تملكه الجماعات الدينية من خطاب مقدس تروج له من خلال اقبيتها السرية. فالمجتمع المسلم كان واقعا بين القمع السياسي للسلطة quot;العلمانيةquot; والقمع الديني والفكري الذي تمارسه القوى الدينية المؤثرة اجتماعيا.
واذا استمر الوضع السابق فإن خيارات التغيير ستبقى محدودة ان لن تكن معدومة، لان المجتمعات ستبقى متمسكة بالسلطة لعدم وجود البديل، وستبقى، ايضا، متمسكة بقواها الدينية لانها تتيح لها الهامش المقدس المضاد للسلطة السياسية quot;الكافرةquot; او quot;الفاسقةquot; او quot;الظالمةquot;، وان وجد البديل عن السلطة فسيكون دائما هذه القوى الدينية، لعدم وجود قوى مدنية ديمقراطية ليبرالية قادرة على ان تكون بديلا لان الليبرالية ما تزال مجرد فكرة لم تجد لها وجودا حقيقيا.
ولا يوجد علاج لهذا الحصار المفروض على المجتمعات الا بان تخرج قوى الاسلام السياسي الى السطح، ولتمارس ما جعلت المسلمين قرونا يحلمون به، ولتسعى نحو دولة الخلافة او ولاية الفقيه او شورى الفقهاء او غيرها من السلطات الدينية التي يحلم بها الاسلاميون. ولتعمل في سبيل تحجيم كل الحريات المدنية تحت مبرر التصدي للفساد الاخلاقي والانحراف الاجتماعي والميوعة.. لتواجه الربا باعتباره محرما، ولتتصدى للفساد المالي والاداري باعتباره عاملا يتنافى والاخلاق والقيم الاسلامية.. لتروج ضد الغرب الكافر، ولتعمل بكل الاساليب المتاحة لديها كي تطبق الشريعة، ستجد نفسها تكرر ما فعلته الانظمة القمعية نفسها، كما فعل الشاه وصدام ومبارك وبن علي والاسد والقذافي وصالح وامثالهم في الخليج.. والقمع لن ينتج سوى ما رأيناه من موقف شعبي رافض وامة تثور في لحظة quot;بوعزيزيةquot;.

يوما ما جاءت الشيوعية على اكتاف ابناء المجتمعات في اوربا الشرقية، وانكشفت الشيوعية بقمع الشعوب. وجاءت القومية لتنفضح امام الشعوب العربية التي عانت بسببها.. فالشمولية في انماطها الشيوعية والقومية والدكتاتورية بشكليها المؤدلج وغير المؤدلج انفضحت في العالم، واستفاد الاسلاميون، وهم اخر من صمد من القوى الشمولية، من كل ما حصل ومن كل تلك الجرائم والاخطاء، فليأتوا هم، وليجربوا البديل الذي طالما تحدثوا عنه، والحلم الذي روجوا له، ودولة العدل الالهي التي وعدوا بها.

هذا الكلام ليس ترفا، او توقعا او تخمينا، بل هو حكم ينبع من تحولات تاريخية قسرية لن يكون احد في منأى عنها. ومن المؤكد ان اجيالا ستتألم، كما تألمت يوما اجيال سبقتها بفعل دكتاتوريات مضت او اخرى مازالت. ولكن في النهاية سينكشف هؤلاء ايضا، كما حصل في ايران وفي فلسطين وفي بعض دول الخليج التي تعيش تحالفا بين السلطة والمؤسسة الدينية، وهاهم يواجهون المأزق تلو الاخر في العراق.
لا يوجد خيار اخر لان يكشف الناس ان الاسلاميين لا يختلفون كثيرا عن السلطات السابقة، وان البدائل التي يقدموها هي بدائل مشابهة لسابقاتها في الاستبداد. لا فرق بين دكتاتورية دينية واخرى غير دينية، الدكتاتورية والاستبداد واحد ايا كان عنوانه. قد يطول الامر سنة او عشرا او حتى خمسين سنة بل ليكن الامر مستغرقا لقرن من الزمن، لابد من اعطاء المجتمع فرصة تجربة قواه التي طالما آمن بها، ويرى ويقيم وعندها سيكون الحكم.
اما اذا نجحوا ببناء دول تحترم كرامة الامم وافرادها وتتيح العدالة الاجتماعية والتعددية والحريات العامة ووفت تجاربهم بالشروط اللازمة للتحول والتغيير الحضاري فاهلا بها، نحن لسنا مؤدلجين ضد احد. لكنه افتراض صعب لان الشك مع قوى الاسلام السياسي هو عنوان العلاقة بها، كونها غيبية مشغولة باعادة انتاج الماضي في حين ان السياسة هي صناعة المستقبل، وهي ترى نفسها ممثلة عن الله في الارض في حين ان شرعية الحكم والدولة مستمدة من الانسان.