1 :
والشعوب العربية تعلن ثورتها العارمة على حكامها هنا وهناك ينبري هؤلاء الحكام ليعلنوا عن استعدادهم للحوار مع هؤلاء الثوار، حوار صريح، جدي، يتناول كل ما هو محل اختلاف بينهم وبين شعوبهم الثائرة، ومنها قضايا مصيرية، تمس بنية الحكم، بدأ من شكل الحكم ومرورا بحقوق الحاكم، وصلاحياته، ومسؤولياته، وانتهاء بضرورة تنحيه وفسح المجال امام الشعب لا ختيا ر الحاكم بطريقة جديدة، ليس بالتعيين الشخصي ولا بالتوريث، وإنما بآلية ديمقراطية يشارك بها كل ابناء الشعب.
أكثر من حاكم عربي يدعو شعبه اليوم الى الحوار، حتى الحاكم الذي لم تصله بعد شرارة الثورة، وهي ظاهرة جديدة تماما، فلم يفكر هؤلاء الحكام يوما بدعوة شعوبهم للحوار، بل ربما كان هناك استعلاء على أي دعوة إلى الحوار مع الشعب، حتى إذا كانت هذه الدعوة صادرة من مفكرين ومثقفين وسياسيين مشهود لهم بالنزاهة والشعبية والريادة.

2 :
هذه الدعوة قد تكون إيجابية ومفيدة في حد ذاتها، أي في حد نفسها كمشروع وفكرة وفلسفة، ولكنها جاءت في وقت متأخر جدا، جاءت في وقت تجتاح فيه الثورة الشعبية الرافضة مساحة العالم العربي تقريبا، وفي ادق مفاصله الجغرافية الحساسة، جاءت في وقت انتفض فيه العنصر المهم في هذه الشعوب، القطاع الحساس، القطاع المتوتر، أي قطاع الشباب، ونحن نعلم أن الشباب يشكل أكبر نسبة عددية في شعوب العالم العربي، وهؤلاء الشباب يعانون من احباط مدمر من حكامهم وانظمتهم السياسية، بسبب البطالة والحرمان من ممارسة حقوقهم المعاشية والفكرية والجسدية والسياسية.
دعوة هؤلاء الحكام شعوبهم الثائرة الرافضة الى الحوار جاءت متاخرة جدا، لقد انفلت الزمام، وحتى لو تمكن هؤلاء الحكام من قمع هذه الثورات الشبابية، وتمكنوا من اخماد صوتها الهادر، فإن الرفض تحول الى قوة كامنة، يتفجر في أي لحظة ممكنة، وفيما نعلم إن هؤلاء الحكام من العسير أن يرتفعوا الى مستوى هذه الشعوب خاصة على صعيد ما يهم شباب هذه الشعوب وعيا وإيمانا بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان كما نصت عليها مواثيق الامم المتحدة، وبالتالي، فإن ذلك يعني أن المستقبل يدخر الكثير من المفاجآت الثورية، نحن بين يدي مستقبل مشتعل بالروح الثائرة الرافضة بكل معنى الكلمة.

3 :
هنا نقطة أخرى جديرة بالتدبر، إن هذه الدعوات التي راح يطلقها هؤلاء الحكام، اي دعوة شعوبهم الى الحوار، لم تأخذ نصيبها من الوثوقية في ضمائر هذه الشعوب، هناك شك، هناك خوف، ذلك إن تاريخ العلاقة بين هؤلاء الحكام وشعوبهم مليئة بالدم والدموع، تاريخ قمعي، استعلائي، ولم يكن هذا التاريخ عبارة عن فترة زمنية قصيرة، بل ربما يمتد عمره لعشرات السنين،عقود، وعليه، من الصعوبة أن تزول هذه الصورة المتهمة من الذاكرة، ذاكرة هذه الشعوب.
إن التاريخ يحكم، الماضي منه يحكم الحاضر، وهذه الشعوب تستذكر التاريخ وتقيس عليه، وتستلهم منه، ولو بصورة عفوية، هذه النقطة كما يبدو غائبة على هؤلاء الحكام.

4 :
ثورات الشعوب، الشباب، التي تجتاح العالم العربي اليوم ليست بسيطة، ليست بدافع مطالب ساذجة، خدمات، وظائف، بل هي ثورات بنيوية، في الصميم، التغيير هو المطلب الجوهري في هذه الثورات، إنها إرهاصات تاريخ جديد بمعنى الكلمة، ومثل هذه الثورات لا يمكن تهدأتها بحوار، لا يمكن تسكينها بجرعات وقتية، هذه الثورات لا علاج لها إلا بثورات، ثورات بنيوية أيضا، ثورات في الصميم أيضا، يقوم بها الحكام أنفسهم.
أن الحكام العرب مدعون حقا الى فهم قوانين التاريخ، عليهم ان يرتفعوا الى مستوى هذه الثورات بثورة عارمة على طريقة تفكيرهم، وطريقة فهمهم للواقع، طريقة فهمهم لحركة التاريخ...
هل ينتصر أحدهم لشعبه ونفسه ويتحول الى ثائر ايضا؟
ليس شرطا أن يتنحى عن الحكم، بل أن يتحول الى ثائر، ينزل الى الشارع ويعلن ثورته على الواقع الفاسد، يعترف بأن الواقع كان جريمة، خطيئة، ويطرح برنامج عمل جديد، يكون فيه طرفا وليس حاكما، يكون فيه مواطنا عاديا، يطالب هو الاخر بحقوقه، ولكن على سنة المساواة والعدل، سنة مواطن عادي، وبهذا، يكون هذا الحاكم يدخل التاريخ، يسجل نقطة فا رقة في تاريخ الحكام العرب، وفي تاريخ المسيرة السياسية في العالم.

5 :
انقلاب الحكام العرب على أنفسهم بثورة فكرية سياسية تحيلهم الى قادة جدد، قادة تاريخيين، ولكن هل هذا ممكن؟
لا شي مستحيل في عالم السياسة، وفي عالم بات فيه التغيير طابع التاريخ، وسوف يجدون من المفكرين والمثقفين العرب دعما وسندا، وسوف يتحولون الى حكام قاعدتهم شعوبهم، فهذه الشعوب رغم الحالة الثورية التي تعيشها اليوم، تهتز طربا فيما لو حكامها نزلوا الى الشارع،وينضمون الى الشعوب، وطرحوا في الوقت نفسه برنامج حقبة سياسية وفكرية جديدة، برنامج يعلن الديمقراطية مبدا حكم، والحرية قيمة سياسية وفكرية لا بديل عنها.
إنها تتطلب شجاعة!