1:
كثيرة هي محاولات أو آليات تزييف العقل العربي امس واليوم، كثيرة هي آليات تكسيح العقل العربي، وتمريغه في وحل الاعجاب الموهوم، وإغراقه في شبح الدهشة التي هي مجرد فراغ لا أكثر ولا أقل، كثيرة هي آليات استغلال العقل العربي وتمرير الوهم من خلا له ليكون حقيقة مشرقة، ثم تستبد هذه الحقيقة المشرقة بوجدان وسلوك حامل هذا العقل المسكين، ثم (قد) تتضح له بعد حين إنها مجرد وهم، خدعة، كذب!
أريد هنا أن أذكر إنموذجا من نماذج هذه الأليات، التي قد تكون مقصودة أو عفوية، ولكنها في النهاية تقود إلى تزييف العقل، وتخديره، وقمعه...
الإنسان العربي تاريخي، تراثي، مهما بلغ من قدرة على تجاوز التراث ولكن يرجع إليه بالنهاية، بشكل وآخر، مهما بلغ القدرة على محاكمة هذا التراث، يرجع ليتخذ موقفا ملطَّفا بدرجة وأخرى، كأن يقول نستوحي التراث، او يقول نعدِّل بالتراث، أو يقول تراثنا غني ولكن ينبغي أن نصفيه ونهذبه ونحكم العقل في جسده، وهكذا، وليس لي شغل بنماذج شاذة، تخرج على هذا التقليد النابت في أعماق المخ العربي...
أريد هنا أن اتحدث عن أنموذج من نماذج تزييف العقل العربي في فضاء التاريخ / الدين، الحادثة التاريخية / الدينية، الواقعة التاريخية / الدينية...

2:
يتحدثون ـ على سبيل المثال ـ عن حادثة رفع المصاحف في صفين، ويسوِّدون لها الصحف تلو الصحف، ربما تبلغ عشرات الصحف، ثم يوردون المصادر أو ما يسمونه بـ (المصادر) التارخية، التي تثبت هذه الحادثة التارخية / الدينية المهمة! نقرا الحادثة في المتن، ثم يحيلنا المتن إلى المصادر في هامش الصفحة بطبيعة الحال، وفيما نلقي نظرة على الهامش، تستقبلنا عشرات المصادر، المصادر التي تثبت الحادثة التارخية/ الدينية، رفع المصاحف...
لست الآن في معرض محاكمة ذات الحادثة التاريخية / الدينية هذه، لها مكان آخر، ولي فيها لقاء مع القراء على صفحات إيلاف الشهية، ولكن أريد أن أسلط الضوء على كيفية تزييف وخداع العقل العربي بهذه الطريقة الغادرة...

3:
مصادر كثيرة، الطبري، المسعودي، الكامل لابن الا ثير، تاريخ خليفية خياط، تاريخ بن خلدون، العقد الفريد لان عبد ربه، عيون الاخبار، تاج العروس، الحيوان للجاحظ، البخاري... هناك سلسلة مدهشة من المصادر التي نقرأها على هامش الترقيم في المتن، عن هذه الحادثة التارخية / الدينية، والتي هي هنا ـ افتراضا ـ رفع المصاحف في معركة صفين، حيلة عمرو بن العاص لكسر انتصار جيش العراق على جيش الشام، أو لتخليص جيش الشا م من الهزيمة ولو مؤقتا...
إن إدراج كل هذه المصادر وغيرها في الهامش على متن الرقم في المتن تخدع القاريء، تخدع العقل، تملأ العقل بصدقية ما سطره المتن، رفع المصاحف هنا ــ افتراضا ــ فيخرج القاريء من كل هذه الحصيلة من المصادر والإحالات، يخرج بنتيجة قاطعة، او شبه قاطعة بصحة وأصالة ما قاله المتن، المتن الساحر!

4:
ولكن مجرد أن نراجع هذه المصادر، ماذا سنرى؟
أولا: سنرى أن بعض هذه المصادر ليست اختصاصا بالتاريخ أصلا، هي كتب أدب، سمر، روايات تسلية، شعر، فهي لا تصلح كمصادر على صعيد توثيق الحادثة التاريخية / الدينية، على سبيل المثال العقد الفريد لابن عبد ربه، فهذا الكتاب فضلا عن كون رواياته عارية عن السند، هو كتاب أدب تقريبا، فمن الخطا ان نجعله مصدر تاريخيا.
ثانيا: سوف نرى أن بعض هذه المصادر قد أوردت الحادثة التارخية / الدينية بلا سند، بلا رواة، فكيف يستقيم الاستشهاد بها؟
ثالثا: سوف نرى أن بعض هذه المصادر لم يات بشيء جديد، بل هي تردد ما جاء في مصادر سابقة عليها، تتبعها، متنا وسندا، وربما يزيد السند راو أو إثنان بسبب تقادم الزمن، وليس من جهة أصل الرواية بمصدرها الاصلي، وإلا الرواي الذي يتصل باصل الرواية هو نفسه في كلا المصدرين، السابق واللاحق!
رابعا: سوف نرى بعد التمحيص و التدقيق إن هذه المصادر، أكثرها، أغلبها، وفي اههما ترجع بالنهاية إلى مصدر واحد، ثم إلى راو واحد، كأن يكون الطبري عن أبي مخنف، والآخرون أخذوا منه تبعا، أي، هناك روية وا حدة في الاساس، مصدر واحد فقط، فيما الهامش يخدعنا بعشرات المصادر التارخية والادبية والدينية، كشواهد وأدلة على تلك الحادثة التاريخية / الدينية المفترَضة!
خامسا: سوف نرى أن بعض هذه المصادر مفقودة أصلا، ولكن يُنقل عنها عن طريق مصادر أخرى، أي لا وجود للأصل أبدا، بل هو نسخ منه، أو نسخ عن نسخ، وما أكثر هذه الحالات المغرية بالمعرفة فيما هي زيف في زيف.
سادسا: سوف نرى أن بعض هذه المصادر متاخرة جدا، قد يكون زمنها بعد زمن الحادثة بمئات السنين...
سابعا: سوف نجد أن بعض هذه المصادر منحولة، تنسب لإناس ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، كما هو الحال مثلا في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة، وكتاب (الاختصاص) للشيخ الشيعي المعروف الشيخ المفيد.
وهكذا!
بعد التمحيص والتنخيل، ربما لا يصمد سوى مصدر واحد من كل هذه (الضجة) المصدرية المراجعية الإحالية!
يخرج العقل من خلال شبكة هذه الضجة، بأن ما جاء في المتن صحيح، مقطوع به، لا شك به، حقيقة صا رخة!

5:
هذه أحدى آليات مسخ العقل، التشويه عليه، التحايل عليه، وهي خدعة بصرية دقيقة، تستغل حاسة البصر للتعمية على البصيرة، كما تستغل الدعاية في كثير من الاحيان حاسة السمع للتعمية على الاستماع، يعني تغليب السماع على الاستماع، حيث في الحالة الاولى يتحكم التلقي، فيما في الحالة الثانية يتحكم التبصير والتنقيب والتروي قبل كل شيء....
نحن مخدوعون...