تطلق هذه المفردة في كثير من الادبيات الفلسفية ويُراد بها النظرة الروحية للكون، اي القول بإن هذا الوجود نتاج عقل واع، يتميز بالمطلق في كل صفات الجلال والجمال، على اختلاف في الكثير من الموضوعات والقضايا والمسائل التي تدور حول هذا المطلق، سواء على صعيد الاثبات او الصفات وكيفية التعامل معه وغير ذلك، وتأتي هذه النظرة الفلسفية في قبال النظرة المادية البحتة التي ترى ان الوجود في كل كلياته وجزئياته، في كل حركاته وسكناته، إنما هو وجود مادي صرف، ليس للعقل مدخلية في ايجاده او رعايته، بل العقل ذاته لا يخرج عن حريم المادة بشكل واخر، وهو التفسير الذي يسميه الخطاب الفلسفي بالمذهب أو الفلسفة المادية، وكما ان هناك اختلافات وتبيانات في داخل المدرسة الروحانية لتفسير الوجود رغم القاسم المشترك بين هذه المدارس، كذلك الحال في المدرسة او الفلسفة المادية.
هناك فلسفة تسمي نفسها بالواقعية وهي الفلسفة التي تعترف بالواقع الموضوعي للوجود ـ عكس المثالية ــ ولكنها لا تتورط في بيان ماهية هذا الواقع ـ عكس المادية ــ، ومن ثم تؤمن ايمانا قويا بالتفسير الروحاني للوجود، وبالتالي، فإن من معاني الروحانية هو القول بوجود سبب لا مادي للوجود، واحيانا يطلق على القول با ن الوجود هو مجرد ما ندركه، يطلق على هذا القول بالمذهب الروحاني ايضا وإن كانت التسمية الرسمية الاكثر شيوعا، هو (المثالية)، ومن الاستعمالات المعروفة لهذه المفردة الايمان بكائن سام يكمن في عمق الانسان بصورة واخرى، هذا الكائن يسمونه (الروح)، وتبعا لذلك يطلقون على هذا المعتقد بالمعتقد (الروحاني) أو (الروحي)، لا فرق في النتيجة، وفي زمن غابر كانوا يعتقدون أن لكل موجود روح أو طبيعة تكمن في داخله، تقوده الى الامام، ومن ثم تطورت النظرة لينقلوا هذه الروح أو الطبيعة المزعومة من داخل الكائن الى خارجه، فكل موجود تحركه من خارجه روح أو طبيعة، وكل هذه التصورات سُمِّيت وتسمى احيانا بالنظريات الروحانية، ولكن هناك من يصرف هذه المفردة الى استعمالات سلوكية، حيث تختلف ا لحيثية، اي حيثية التسمية، إلا أنها بشكل عام أو لنقل في اغلب الاحيان ترتبط من جهة خفية بذلك التفسير الميتا فيزي للوجود في صورة من صوره، فالمسلم الذي يؤدي واجباته الدينية بعمق وسعة وتكثيف، ويتعالى على المادة والدنيا، ويزهد بالمطامع الجسدية، مثل هذا المسلم يطلق عليه المسلمون بـ (الروحاني)، هذا المقترب ربما نجده في الديانات الاخرى ايضا، وذلك حتى إذا كانت احيانا ديانة لا تؤمن بالله واليوم الاخر، فالبوذية مثلا ديانة روحانية، والبوذي يسلك في حياته سلوكا روحانيا، اقصد من خلال هذه الزاوية، اية زاوية السلوك، وتسمية هذا السلوك بالروحاني يبدو متاثرا من النظرة الى الروح باعتبارها كائن مجرد.
المسلم الذي يؤمن با لله، ويصدق بمحمد، ولكنه لا يرتقي الى نكران الذات، والزهد في الحياة من أجل الغير ولأنه يغترف من الدنيا نصيبه بشكل طبيعي وربما مغال، هذا المسلم لا يسمى روحانيا، هكذا نقرا في الادبيات الاسلامية، وربما نقرا مثل ذلك في الادبيات المسيحية، وعليه، ربما هناك الروحاني بالمعتقد والسلوك، وهناك الروحاني بالمعتقد ولكنه ليس روحانيا بالسلوك، وربما هناك مادي بالمعتقد ولكنه روحاني بالسلوك، فهل يمكن إشاعة مثل هذا المفهوم؟
هذا التقسيم يقودنا الى مفهوم جديد للمادية كمصطلح، فالمادية تطلق على الاعتقاد المادي بالكون، فيما نجد في كثير من الاستعمالات اطلاقها على الشخص الذي ينغمس في حب ذاته، وينغمس بشكل مثير في عالم اللذات والشهوات والأنانية الشخصية، وكم من معتقِد بروحانية الكون ولكنه جشع، نهم، مفرط في حب ذاته الى حد العبادة والهوس؟ وكم من معتقد بمادية الكون ولكنه يفني ذاته من اجل الآخرين، زاهد في الدنيا، يكتفي من حياته بقرصين من شعير وشربة ماء وكسوة تقيه البرد والحر على مستوى في غاية البساطة والزهد؟!
خطاب الديانات التوحيدية اتصور يعارضون اطلاق مفردة (روحاني) على كارل ماركس مثلا رغم دفاعه المستميت عن الفقراء والمساكين، ويرفضون ان نطلق هذه المفردة على اي شخصية تعيش الزهد الحقيقي في هذه الدنيا، وتصرف كل طاقتها في خدمة البشرية، ذلك أن الروحانية السلوكية لا حقيقة لها إذا لم تستند إلى روحانية اعتقادية في قاموس اصحاب الديانات التوحيدية.
في رواية (الطاعون ) للراوئي الفرنسي المشهور (البير كامي) هناك القس وهناك الطبيب، كلاهما تفانيا في سبيل القضاء او مقاومة الطاعون الذي جابه المدينة وراح يحصد الارواح البريئة بلا حساب، مع أن الطبيب كان لا يؤمن بحكمة الكون، ولا يرى اية حكمة يمكن ان نستقيها من هذا الموت الذي فاجأ الناس بسبب الطاعون، على عكس القس الذي كان يؤمن ان هناك حكمة بليغة وراء هذا الموت الرهيب، ولكن كلا الحكمة والعبث لم يؤثرا في عزيمة هذا الطبيب أو ذاك القس تجاه خطر مزعج يهدد الناس، مهما كان لونهم ودينهم ومعتقدهم ومستواهم الاقتصادي والاجتماعي.
الروحانية في السلوك صفة ممدوحة حتى من قبل الما دية في السلوك، لانها نموذج رائع على الإيثار والاخلاص، ولانها دليل طموح شريف ورائع من أجل الغير، ويبدو ان هذا هو السبب الذي يدعو الخطاب التوحيدي معارضا لاطلاق الصفة الروحانية على صاحب الاتجاه الايثاري في الحياة رغم كونه ملحدا!
ان الفصل بين الروحانية الاعتقادية والروحانية السلوكية مطلب مهم على صعيد تقييم البشر، وفي تصوري ان صاحب الاعتقاد المادي في الوجود وفي ذات الوقت صاحب السلوكية الروحانية ارقى نموذجا من صاحب الاعتقاد الروحي ولكنه مادي السلوك.