1
لقد مرّت بنا رواية عمار الدّهني عن الامام الباقر، وقد ذكرت الرواية أن الرأس الشريف حُمِل الى الشام وهناك كان قد وُضِع بين يدي يزيد بن معاوية فاخذ ينكت شفتي الحسين بالقضيب، ولكن الرواية كما قلنا تعاني من خلل سندي، ففي السند خالد القسري، وهو ممّن لم تُرْتَضَى روايته، ويروي الشيخ المفيد المتوفي سنة (413) للهجرة: (... وطعنه ـ أي الحسين عليه السلام ــ سنان بن أنس بالرُّمح فصرعه، وبدر إليه خولي بن يزيد الاصبحي... فنزل ليحتزّ رأسه فأُرْعِد، فقال له شمر: فتّ الله في عضدك، مالك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد فقال: احمله إلى الأمير عمر بن سعد... وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك ـ وهو يوم عاشورا ء ــ برأس الحسين عليه السلام مع خوليِّ بن يزيد الأصبحي وحُميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد... وسرَّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، فاقبلوا حتى قدموا بها على ابن زياد... ولمَّا وصل راس الحسين عليه السلام ووصل ابن سعد... جلس ابن زياد للناس في قصر الإمارة وأذن للناس إذنا عاما، وأمر بإحضار الرأس فَوُضِع بين يديه، فجعل ينظر إليه ويبتسم وفي يده قضيب يضرب به ثناياه، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم...) / الارشاد 2 ص 114، تحقيق مؤسسة ال البيت / والرواية كما نص الشيخ المفيد نقلها عن الكلبي والمدائني، ولكن بشكل مباشر، ومن دون المرور على سند كل منهما، وفيها شيء من الزيادات التي تبدو مقصودة، ويستمر المفيد بروايته فيقول: (... فروى عبد الله بن ربيعة الحميري... قال: ولما وُضِعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين عليه السلام قال يزيد:
نفَلِّق هاما من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق واظلما) / المصدر ص 119 /
لم يذكر المفيد ضرب يزيد شفتي الحسين، وحصر ذلك في عبيد الله بن زياد، وتناول السيِّد ابن طاووس المتوفي سنة (664) واقعة الطف في كتابه (ا لملهوف على قتلى الطفوف)، وذكر حمل العائلة العلوية مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الاشعث وعمرو بن الحجاج إلى عبيد الله بن زياد، ثم الى يزيد بن معاوية، ويقول المصنف: (وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام، وؤوس من قُتِل معه، وبحمل اثقاله ونسائه وعياله، فاستدعى ابن زياد محفِّز ابن ثعلبة ا لعائذي، فسلّم إليه الرؤوس والاسارى والنساء...) / ص 209 /، على أن رواية الطبري وغيره لم تشر إلى أن حمل السبايا والرؤوس إلى يزيد بن معاوية كان بطلب من يزيد، ويروي المصنف ليقول: (... ثم دعا يزيد بقضيب خيزران، فجعل ينكث به ثنايا الحسين عليه السلام... فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي...) / ص 214 / ولم يبين المصنف سنده في الرواية سوى قوله: (قال:) أي الراوي، ولم ترد قصة ضرب عبيد الله بن زياد ضرب الشفاه الطيبة، في رواية ابن طاووس.
ولكن هنا ملاحظة جديرة بالانتباه حول رواية ابن طاووس، فإن وصول كتاب بن زياد إلى يزيد بن معاوية الذي يخبره به بنصر خليفته، ثم عودة الخطاب من يزيد إلى عبيد الله بن زياد الذي يامره به ببعث العائلة العلوية ومعها رأس الحسين إنّما يتطلب زمنا طويلا، فما الذي حصل لهذا الرأس النبيل، وللأسارى في هذه المدة الطويلة؟!
يقول أحد علماء الشيعة وهو ابن نما الحلي: (رويتُ أن أنس بن مالك قال: شهدت عبيد الله بن زياد وهو ينكتُ بقضيب أسنان الحسين، ويقول: أنّه كان حسن الثغر، فقلتُ: أم والله لأسوءنك، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل موضع قضيبك فيه) / نقلا عن البحار 45 ص 118 /.
يروي المجلسي (ت 1111) صاحب كتاب البحار رواية غريبة فيما يخص رأس الحسين عليه السلام جاء فيها: (أقول: رأيتُ في بعض الكتب المعتبرة روى مرسلا عن مسلم الجصّاص قال: دعاني ابن زياد لأصلاح دار الامارة بالكوفة، فبينما أنا أجصِّص الأبواب وإذا انا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فاقبلتُ على خادم كان معنا فقلتُ: ما لي أرى الكوفة تضجُّ؟ قال: الساعة أ توا برأس خارجي خرج على يزيد، فقلتُ: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي عليه السلام، قال: فتركت الخادم حتّى خرجتُ ولطمتُ وجهي حتّى خشيت على عيني أن يذهب، وغسَّلتُ يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيتُ إلى الكناس... / ثم يصف الراوي رأس الحسين /... رأس الحسين هو رأس زهريُّ، قمري، أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولحيته كسواد السَّبج قد أنتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طاالع، والرّمح ـ الرمح الذي يحمل الرأس الشريف ــ تلعب بها يمينا وشمالا، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدَّم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها...) / البحار 45 ص 114 / ولا أعتقد هناك صعوبة في تزييف هذه الرواية، فأ ولا هي مرسلة، وثانيا لم يذكر لنا المجلس عنوان هذا الكتاب المزعوم، وثالثا ما يحوي الخبر من مشاهد اعجازية بعيدة عن الوا قع، فكيف حافظ الرأس الشريف على كل هذه النظارة بعد هذا التجوال الطويل في العالم، وفي مثل تلك الظروف المنا خية القاسية؟!
يثير الشيعة على موقف (أنس بن مالك) من ضرب ابن زياد أو يزيد الشفتين الكريمتين بالقضيب شبهة مستفادة من كتبهم با لذات، فإن التراث الشيعي يقول بان أنس بن مالك كان قد أصيب بالعمى بدعاء علي بن أبي طالب بسبب إخفاء شهادته على حديث الغدير لما استشهده علي عليه السلام على ذلك / نهج البلاغة 1 ص 362 طبعة دار صادر، بيروت / فإذا كان اعمى فكيف رأي ذلك؟ ولكن بعض الكتاب الشيعة يقولون ليس هناك منافاة، إذ قد يكون انس قد سمع بذلك، فانكر على ما سمعه!/ البحار نفس المصدر ص 116 /
يروي صاحب البحار أيضا: (وعن سعيد بن معاذ وعمرو بن سهل إنهما حضرا عبيد الله بن زياد يضرب أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه، فقال زيد بن أرقم: ارفع قضيبك إنِّي رأيت رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم وا ضعا شفتيه على موضع قضيبك، ثم انتحب باكيا، فقال له: أبكى الله عينيك عدوّ الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك) / البحار ص 118 /
لقد ترجم المجلسي للامام الحسين في ثلاث مجلدات، وفي المجلد رقم (45) الباب (39) يتحدث فيما يتحدث عن الرأس الشريف عبر روايات جمعها من هنا وهناك، وفي هذا الباب يقول الشيخ الرجالي المعروف محسن آصف: (فيه 48 رواية مرسلة أو مسندة غير معتبرة...) / مشرعة البحار 2 ص 156 /
2
يتداول الشيعة بشكل ملفت للنظر كتاب المقتل لـ (أبي المؤيد الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي) المتوفي سنة 568 للهجرة، والمصنف محسوب على السنة كما هو معلوم، ولكن كتابه هذا يعد من أوسع الكتب التي تتحدث عن مقتل الحسين وأهل بيته، كما أن المصنّف يعد من الثقاة، وقد اعتمد في مصنفه على أبي مخنف، وعلى كتاب الفتوح لا بن اعثم الكوفي المتوفي سنة 314 هجرية، والذي يتهمه بعضهم بأنه ليس بالمؤرخ المهني، وأنه ميال للعلويين رغم أنه سني المذهب، وللخورازمي هذا روايته الخاصة فيما يتعلق بقتل الحسين، منها ما هو متصل بشأن الراس الكريم.
يقول المصنف: (أخبرنا العلامة فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري... عن محمّد بن سيرين،عن أنس بن مالك قال: لما جيء برأس الحسين فَوُضِع بين يديه ـ يعني ابن زياد ـ في طست جعل ينكتُ بقضيب في وجهه،وقال ما رأيت مثل حسن هذا الوجه قط، فقلتُ: أما إنّه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعث برأسه إلى يزيد، فلما أُتي إلى يزيد برأسه قال: لقد قتلك رجل ما كان الرحم بينك وبينه قطعا) / مقتل الخوارزمي 2 ص 43 منشورات المفيد، قم / ـ
هذه الرواية نقلا عن انس بن مالك، وليس فيها إشارة إلى ضرب الشفتين، وإنما النكت كان (في وجه الحسين) كما هو نص الرواية، ومن الصعب تشخيص ما يريد انس بن مالك من وجه الشهيد العظيم، ولكن هل حقا كان أنس بن مالك في الكوفة آنذاك؟
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك: (... عن علي بن زيد، عن أنس بن مالك قال: لما أُتي برأس الحسين عليه السلام إلى عبيد الله بن زياد جعل ينكت بقضيب في يده، ويقول: إنّه لحسن الثغر، فقلتُ: والله لأسوأنك! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل موضع قضيبك من فمه) / المصدر ص 45 /، والسؤال هل حقا كان أنس بن مالك في الكوفة؟ وهل حقا قال ذلك؟ ولماذا تختفي هذه الزيادة في روايته السابقة.
وفي رواية أخرى: (أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد، ابو الحسن علي بن حمد العاصمي... عن زيد بن ارقم قال: كنت جالسا عند عبيد الله بن زياد إذ أُتي براس ا لحسين عليه السلام، فوضِع بين يديه، فاخذ قضيبه فوضعه بين شفتيه، فقلت له: أنك لتضع قضيبك موضع طالما لثمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم! إنَّك شيخ قد ذهب عقلك) / المصدر ص 45 /، ويتكرر السؤال، تُر ى هل حقا كان أنس بن ما لك في الكوفة آنذاك؟!
وفي رواية أخرى: (... عن الحسن بن أبي الحسناء، سمعت أبا العالية ا لبرا ء قال: لما قُتِل الحسين عليه السلام أُتي عبيد الله بن زياد برأسه، فأرسل إلى أبي برزة، فقال له عبيد الله بن زياد كيف شأني وشأن حسين بن فاطمة؟ قال: ا لله اعلم ّ فما علمي بذلك، قال: إنّما أسالك عن علمك! قال: أما إذا سألتني عن رأيي فإن علمي أ ن الحسين يشفع له جده محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ويشفع لك زيا د، فقال له: لولا ما جعلت لك لضربت والله عنقك، فلما بلغ باب الدار قال: لئن لم تعد علي وترح لاضربنك عنقك) / ا لمصدر ص 44.
هذه الرواية غريبة، فقد مضى بنا غير هذا الذي جا ء فيها عما يخص موقف ابو برزة الاسلمي، فهو في تلك الروايات كان حاضرا عملية ضرب الشفتين في حضرة يزيد بن معاوية في الشام!!وكان قد اعترض اعتراضا شديدا على عملية الضرب القاسية في مجلس يزيد بن معاوية!
هذه الروايات التي يرويها صاحب المقتل مضطربة المتون جزئيا، كما أنها تتناقض مع بعض الروايات الاخرى التي تناولت ذات الموضوع.
المصنف يروي عملية الضرب على شفتي الحسين منسوبة إلى يزيد بن معاوية أيضا، فقد روى: [... شيخ من بني تميم من أهل الكوفة، قال: لما أُدخِل رأس الحسين وحرمه على يزيد بن معاوية،وكا ن رأس الحسين بين يديه في طست، جعل ينكتُ ثناياه بمخصرة في يده ويقول: (ليت أشياخي ببدر شهدوا) وذكر الأبيات إلى قوله (من بني أحمد ما كان فعل) ] / المصدر 2 ص 65 / والرواية ضعيفة بـ (شيخ من بني تميم...)، ولكن روا ها قبله مرسلة عن (خزيمة الاسدي) صاحب الفتوح: (قال: ثم أقبل على أهل مجلسه... وجعل يزيد يتمثل بأبيات عبد الله بن الزبعري وهو يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا وقعة الخزرج من وقع الاسل
وأكمل الابيات إلى أربعة، ثم قال: (ثم زاد فيها هذا البيت من نفسه: لستُ من عُتْبة إن لم أنتقم....) / الفتوح 5 ص 129 / وهي ضعيفة بسبب الإرسال.
ويرويها صاحب البداية و النهاية أيضا مرسلة، فقد جاء في المصدر: (قال مجاهد....) وساق الخبر، مضيفا: (قال مجاهد: نافق فيها، والله ما بقي في مجلسه أحد إلاّ ذمه أ وعابه)، ولكن ابن كثير يعلق على أصل الخبر بالقول: (فهذا ما قاله يزيد بن معاوية فعليه لعنة الله وعليه لعنة اللاعنين،وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه) / 8 ص 192 / وقد ذكرها في و اقعة الحرّة، وفي مكا ن آخر قال ابن كثير نفسه هذا البيت وقال:(إنّه من وضع الرافضة)، جاء ذلك في كتاب (الرد على من لعن يزيد بن معاوية) استليته من نسخة ألكترونية، ولم أتبين الموضع المذكور في كتاب (البداية وا لنهاية)، ربما أشير إ ليه في بعض البحوث اللاحقة، فإني عازم على تصفية الرواية العاشورية إذا صح التعبير.
يرويها ابو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي المتوفي سنة 579 في كتابه (ا لمنتظم في تاريخ الملوك والامم)، بقوله: (أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزغواني... حدّثنا محمّد بن يحي الأحمري، قال: حدَّثنا ليث، عن مجاهد...)، وساق الخبر في بيتين فقط / المنتظم 5 ص343 /، وفي السند محمد بن يحي الاحمري، لم أجد له ترجمة سوى ذكر بسيط في معجم الخوئي، بعنوان إنّه من أصحاب الامام الصادق بلا توثيق / ا لمصدر رقم 11958 /
ورواها صاحب تذكرة الخواص بن السبط الجوزي مرسلة أيضا، رواها السيد بن طاووس مرسلة / الملهوف ص 79 /، يبدو لي أن هذه الرواية منحولة، وقد أضيفت فيما بعد على مرويات المقتل لأغراض سياسية أو غيرها، على أن صاحب مقاتل الطالبيين يوردها مختصرة ببيتين فقط ولكن بلغة التمريض (... وقيل أنه ـ يزيد بن معاوية ـ إنّه تمثل أيضا والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعري...) / ص 80 /
يبدو لي أن الرواية مضافة الى مرويات الطف، صحيحها وكاذبها، فهي لم تُذكر في المصادر المعتبرة، كالطبري، وتاريخ خليفة، وتاريخ المسعودي، واليعقوبي، وما إلى ذلك من مصادر مهمة أخرى، ومما يزيد درجة الشك بها، أن الابيات المذكورة اصلا للزبعري كان قد أنشدها بعد معركة أحد تشفيا بالمؤمنين، وقد ذكرها صاحب السيرة ابن هشام هناك.
وفي رواية للمصنف الخوارزمي هذا: [... ثم دعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين عليه السلام وهو يقول لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك، فاقبل أبو برزة الأسلمي أو غيره من الصحابة...) / ص 57 / ويستدرك بالقول: (وقيل: ان الذي رد عليه ليس ابا برزة، بل هو سمرة بن جندب...).
الذي يمكن ان اخلص له من كل هذا السرد أن القدر المتيقن هو ان راس الحسين حُمِل إلى عبيد الله بن زياد، وهذا ارسله الى يزيد بن معاوية في الشام، وإن ضرب الشفتين كان من صنيع عبيد الله بن زياد.
ارجح بان هذه الرواية لا تتمتع بدواعي القبول الذي يمكن أن تطمئن له النفس، ويبدو لي من الصعب على يزيد أن يمارس مثل هذا العمل القاسي مع الحسين، ومن ثم، أي شفة تبقى بعد هذا التجوال الطويل في عالم الصحراء والشمس والعطش والحر؟!
التعليقات