1 :
استنساخ الانظمة السياسية عملية مشكوك في صحتها واصالتها، ولكن هذا لا ينفي امكان الاستفادة المستوردة، بشرط مراعاة الخصائص الثقافية والاجتماعية والبيئية، وحسب بعض المدارس التي تهتم بالقضية الديمقراطية في العالم، أن الديمقراطية لا تُصدَّر ولكن يمكن أن تُستورَد، شريطة المقترب السابق، وبالتالي، الحديث عن التجربة التركية كنموذج في بعض بلدان الشرق الاوسط لا يعني الاستنساخ الحرفي، بقدر ما يعني الا ستفا دة من جوهر التجربة وروحها الحية، الاستيراد بشرط مراعاة الخصائص بكل ما تعنيه هذه المعادلة من موضوعية وعقلانية وعلمية.
النموذج التركي لا يصلح على سبيل المثال في السعودية أو اليمن او الكويت، ولكن لا يبعد إمكانه بشكل عام في بعض بلدان الشرق الاوسط، وفي مقدمتها مصر وتونس.
ولكن ما هو جوهر الانموذج التركي؟
من الصعب الاجابة المفصلة بل وحتى الملخَّصة جدا عن هذا السؤال، ولكن كما هو مشاع، انَّه الانموذج المستخلص من قيم اسلامية وقومية وغربية بحماية ورعاية العسكر، الاسلام في الانموذج التركي ليس حاكما ولكنه قوة فاعلة ومؤثرة في الاجتماع التركي، وبرعاية الدولة وحمايتها، والديمقراطية في الانموذج التركي مفتوحة لكل الاتجاهات وليست حكرا على اتجاه سياسي محدد، السياسة الخارجية في الانموذج التركي واقعية ولكن بلحاظ مستحقات الجغرافية القريبة، وموروث التا ريخ، ودور القيم الروحية، الحريات في الانموذج التركي تكاد تكون مفتوحة ولكن بضوابط مرنة من داخل الاجتماع التركي، حقا، أنّه انموذج غريب، ولكنه يمضي في طريقه قويا.

2 :
هل يمكن تعميم مثل هذه التجربة الحية؟
استطيع القول أن تونس على سبيل المثال يمكن أن تتحول الى مصداق لمثل هذا التعميم، فالمجتمع التونسي قريب على أوربا جغرافيا وثقافيا في إطار انتماء روحي حي نشط للاسلام، وتونس سبق أنْ مارست تجربة ديمقراطية في حدود نسبية، والحركة النقابية في تونس تملك تاريخا عريقا، وقضية حقوق الانسان كان لها موقع في الخطاب التونسي قبل عشرات السنين، وهناك معالم طبقة وسطى واضحة في هيكلية هذا المجمتع، ثم هناك تيارات فكرية متعددة في تضاعيف المجتمع التونسي، ورغبة ملحة في أنموذج ديمقراطي جديد، ولم يُعرف عن جامعة الزيتونة الاسلامية التطرف والغلو بل با لعكس اتسمت مدرسة الزيتونة بالاعتدال والاصلاح الاجتماعي والفكري، وانتاج بن عاشور العالم التونسي المعروف دليل واضح على ذلك،من جهة أخرى برهن العسكر التونسي على موقف متحضر تجاه التحرك الشعبي الاخير الذي اطاح بزين العابدين بن علي، اعلن حمايته الثورة، وتعهد في ذات الوقت بنقل السلطة بآليات مدنية ديمقراطية الى المجتمع الاهلي، ولا ننسى أن العسكر التونسي ليس بعيدا عن روح الثقافة الغربية خاصة الفرنسية منها، وبا لتالي، ما الذي يمنع من تكرار روح التجربة التركية هنا، اي في تونس؟
مصر هي الاخرى ليست بعيدة عن هذه الامكانية، فالشباب يشكلون النسبة الاكبر فيه، وهناك تيارات فكرية متعددة الهويات والتطلعات، والتحرك الاخير اثبت أن الجميع يهدفون التغيير، ولم تبرز أي معالم تؤكد أديولجية هذا التحرك، بل هو تحرك شعبي عام، يطالب بالحرية والديمقراطية والحقوق المدنية، والازهر معروف بشكل عام باعتداله الديني، ومجانبته للتطرف والتشدد، وله دور واضح في الحفاظ على السلام الاهلي والوحدة الوطنية المصرية، والجيش المصري كان له دور مشرف في الحفاظ على هيبة الشارع ومشروعيته، وبادر الى الإعلان عن انحيازه لهذه المطالب، ووصفها بالمشروعة، ولا ننسى أن العسكر المصري ليس بعيدا عن مفهوم التغيير، فسبق وأن مارس هذا الدور بازاحته للنظام الملكي، وطرح مشروع الميثاق الذي كان في وقته انجازا فكريا متقدما، وللجيش المصري منزلة روحية في ضمير المواطن المصري، وقد اعلن العسكر بكل وضوح عن نيته بتسليم السلطة مدنيا وعبر آليات ديمقراطية الى المجتمع الاهلي، بما يضمن سلامة الوطن ووحدة الشعب وتكريس حقوق الانسان وترسيخ الديمقراطية...

3 :
لا أقول أن المواصفات متطابقة بين ظروف التجربة التركية وممكنات الاستفادة منها في مصر وتونس، بل أدعي أن هناك بعض المواصفات في هذا المجال، وهي مواصفات مشجعة ومثيرة للرغبة الحية لدى شعوب الشرق الاوسط، وليس من شك أن مثل هذه التجربة تساهم مسا همة كبيرة ليس في امن المجتمعات الخاصة بها، بل في امن المنطقة كلها، لانها تجربة تكثر من فرص التعاون النشط والمفيد بين الشرق الاوسط والعالم الغربي، كما أنها تبعد المنطقة من محنة الصراع الاقليمي الحاد وتُغلِّب منطق التنافس الاقتصادي والسياسي والثقافي على منطق الانقلابات والتدخل بالشؤون الداخلية، وتفتح فرص التعاون المثمر بين الانظمة، وتدخل عنصر جديد في بنية النظام الاقليمي، عنصر متعقل وموضوعي في التعامل مع مشاكل المنطقة والعالم.
انظمة ديمقراطية وأنْ محمية من قبل العسكر متجاورة تصب في صالح المنطقة، فهل يتحرك مثقفو الشرق الاوسط لتكريس هذا المشروع في طروحاتهم السياسية والفكرية عبر تعاون كوني فعال؟