1:
عبيد الله بن زياد هو ابن (زياد بن أبيه) كما هو معروف، ومن الضروري أن نعرف من هو هذا الاب، وما هي أهم مفاصل حياته، قبل الدخول في صلب الموضوع.
هو: [ زياد بن سميّة، وهي أمّه، قيل هو زياد بن أبي سفيان صخر... وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، وكان يُقال له قبل أن يستلحقه زياد بن عبيد الثقفي...) (1) وقصّة الإستلحاق هذه معقدة، ويشوبها كثير من الغموض، فهناك من يروي إنه هو الذ ي ادعى هذا الاستلحاق، وليس لمعاوية يد فيه، ولست الآن في معرض التحقيق في هذه النقطة، ولكن المتفق عليه أن الرجل كان ذا مواهب فذة، ومن الشواهد على ذلك إن عمر بن الخطاب استعمله على بعض أعماله في البصرة، وكان كاتبا بارعا، فكتب لأبي موسى الاشعري(2)، زمن إمرته على البصرة (3)/ (كان كاتبا بليغا، كتب للمغيرة، ولابن عباس، وناب عنه بالبصرة) (4).
يقول ابن سعد: (ولم يكن زياد من القرّاء ولا من الفقهاء، وكنّه كان معروفا، وكان كاتبا) (5).
الاخبار تقول: إنّه كان من المقرَّبين الى الخليفة عمر بن الخطاب، ظل معه حتى صار الامر لعلي بن أبي طالب (فاستعمله على بلاد فارس، فلم يزل معه إلى أن قُتِل، وسلم الحسن الأمر الى معاوية (6)، ومن الطبيعي أن كل ذلك يدل على رجاحة عقله، وحنكة إدارته، وحسن تدبيره، وإلا ما هو السبب دون ذلك؟
إن تولِّيه خراسان بإمرة علي سنة اربعين للهجرة نقطة مفصلية في حياة الرجل، ولكن النقطة المفصلية الاخرى في حياته، هي التحاقه بمعاوية بن أبي سفيان بعد قتل علي، حيث صار من رجاله المخلصين، بل يرى بعضهم أنه هو المسؤول عن بناء وتشييد الدولة الاموية، يقول الطبري: (... إن معاوية استعمل زيادا على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، وقدم البصرة في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جُمادي الاول سنة خمس...) (7).
تولى البصرة فامعن بها قتلا وبطشا،، وكان قد افتتح عمله بخطبته المشهورة التي سمِّيت بعد ذلك بالبتراء، لانه لم يبداها بالبسملة (8).
نقطة مفصلية اخرى في حياة الرجل، وذلك عندما ولاّه معاوية الكوفة، وكان ذلك سنة وفاة المغيرة بن شعبة، وكانت وفاته حسب أهم المصادر في خمسين للهجرة (9)،/وكان قد استعمل القوة والبطش كما في البصرة، وقد استطاع أن يقمع المعارضة الشيعية في الكوفة بقسوة سنة 51 للهجرة، ومن ثم عمد إلى ترحيل خمسين الف من عرب البصرة و الكوفة الى خراسان، وما زالت أهداف هذا الترحيل مجهولة، ففيما يوعزها بعضهم الى التخلص من المعارضة، يرى بعضهم إنّها محاولة من ابن زياد لتعريب الفرس هناك.
كانت الكوفة خليطا من الاجناس، وقد كان للعنصر الفارسي حضور كبير، يكاد أن يناصف العدد السكاني لأ هل الكوفة، وترجع اصول هذا الحضور الى سعد بن أبي وقّاص لمَّا مصَّر الكوفة حيث نزل معه اربعة آلاف من الديلم، وقد حالفوا بني زهرة (10)، وقد استفاد زياد بن أبيه من هذا الحضور، حيث شكّل منهم شرطته وجلاوزته، كانوا يُسمون بـ (الحميراء)، وهذه نقطة خطيرة وحساسة في حياة ابن زياد، حتى أنها اثارت استياء العرب في الكوفة.
ولكن لماذا اعتمد ابن زياد على العنصر الفارسي في حمايته وتشكيل فريقه العسكري الخاص به؟
ربما لانه العنصر الذي يشعر بالغربة وقد استغل الرجل هذه الغربة، ولكن لماذا لا نقول إن زيادا وأثناء وجوده في خراسان واليا، كان قد عقد أواصر حميمة بينه وبين هذا العنصر؟ لماذا لا نقول إنّه حزّبهم وجيّشهم لأنه على علاقة طيبة ووطيدة بهم؟
استطيع أن أستند إلى أكثر من معزز كي أُمضي هذا الا ستنتاج...
أوّلا: إنّ الرجل أمضى في فارس قرابة أربع سنوات واليا، وهناك اختلط بهم، وعاشرهم، وعاشروه، وعرفهم وعرفوه.
ثانيا: إنه كان متزوجا من فارسية، هي (مرجانة)، ومرجانة لم تكن أمراة عادية، فهي كما تقول الاخبار تنتمي الى ملوك الفرس القدماء.
سنوات أربع كان فيها واليا هناك، أي في خراسان، فمن الطبيعي ان يتفاعل مع الثقافة السائدة، ثقافة فارس، وربما ثقافة الحكم قبل غيرها، الثقافة التي تتصل باداب السلطان، وقد كان يحكم خراسان من بعد، فهو الذي يعين ولا تها فيما كان في الكوفة أو البصرة، مما يعني أن علاقته باقليم فارس كانت قوية جدا (11).
لقد كانت علاقته بالفرس في خراسان وفي الكوفة قوية موثوقة، فهل يحق لنا أن نقول إن من آثار ذلك كونه: (أوّل من سِير بين يديه بالحراب، ومُشِي بين يديه بالعُمد، واتخذ الحرس رابطة خمسمائة...)(12)، تأسيَّا بالملوك الفرس لما عُرِف عنهم من أبهة وبهرجة وتعظيم وتفخيم؟ وعندما نقرأ إنّ نقش خاتمه (طاووسا) إنما هو انعكاس لهذه الثقافة؟(13).
أريد أن أخلص الى حصيلة مهمة فيما يخص موضوعنا، هذه الحصيلة تقول: إن لـ (زياد بن أبيه) علاقة وثيقة بالفرس، من خلال توليه فارس في زمن علي بن أبي طالب، ومن خلال زواجه منهم، ومن خلال إتصاله بثقافتهم وفكرهم وعاداتهم، ومن خلال كونهم شرطته وزبانيته في الكوفة عندما وليها في زمن معاوية بن أبي سفيان، فهي علاقة صيرورة ومصير ومعرفة وثقة متبادلة، علاقة ليست عابرة او وقتية، بل شبه ستراتيجية بشكل وآخر.
2:
ولد عبيد الله بن زياد سنة (39) على رواية، وسنة (33) على راوية أخرى، ولكن حسب معطيات الطبري تكون ولا دته سنة (28)، لأنه ولي خراسان سنة 53 للهجرة وكان (ابن خمس وعشرين سنة) (14)، وقد ولد من أم مجوسية هي (مرجانة)، وقيل: (كانت أمّه من بنات ملوك الفرس) (15) وسواء تزوج زياد بن أبيه مرجانة في العراق او في فارس، فإن الثابت أن أمه هي مرجانة الفارسية، ثم انتقل عبيد الله مع أبيه الى خراسان سنة 40 للهجرة عندما تولى خراسان بإمرة علي بن أبي طالب،ومكث هناك بصحبة أبيه اربع سنين، وهذا يعني إنه أمضى سنين مهمة من عمره في خراسان، سواء كان طفلا أو مراهقا أو بداية شبابه، فهو كان بصحبة أبيه في خراسان عن عمر سنة واحدة أو سبع سنين أثنتي عشر سنة، ثم تولى خراسان بإمرة معاوية سنة (53) للهجرة وبقي هناك سنتين، عن عمر أربعة عشر سنة، اوعشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، وهذه الاعمار وسابقتها تهيء صاحبها للتأثر بالبيئة الجديدة، خا صة إذا كان ذا جذور أسرية تنتمي بشكل وآخر لهذه البيئة، ونحن كما نعلم أن امه فارسية مجوسية، أي جاء الى وطن أمه الاصلي!
عبيد الله بن زياد تربى في حضن أم فارسية، وقضى شطرا مهما من طفولته وشبابه في خراسان، واليا أو ابن والي، فهل يخرج من كل هذه التجربة بلا أثر ثقافي وحضاري وفكري وروحي في وجدانه وضميره وسلوكه؟
لا أريد أن أقول ان الرجل تمحّض فارسيا، ولكن اقول من الصعب القول بان عبيد الله بن زياد تحرر ولم يتأثر بهذه الاجواء، ولكن هل هناك من أدلة على ذلك؟
إن اول معالم هذا التاثر هو اللهجة، فقد كان عبيد الله بن زياد لا يجيد التلفظ العربي، ويروى أنه لما أستدعى هانيء بن عروة ساله (أهروري انت؟)، أي حروري، نسبة الى الخوارج، فضلا عن هذه اللكنة العجمية الفارسية، كان (يُلحِن)، فقد جاء في النهاية والبداية لابن الاثير الجزء الثامن في ترجمة خاصة به: (وقد سال معاوية يوما أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا: إنّه لظريف ولكنّه يلحن)، وهناك اكثر من تفسير لهذا (اللحن)، منه: أنه كان (يلغِّز)، ومنه: إنّه كان ضد الاعراب، ومنّه: إنّ معنى اللحن هنا كونه ضد الصواب، وقيل إنّ معناه: (إنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أُمّه مرجانة، كانت سيروية... قالوا: وكان في كلامه شيء من كلام العجم.
لكن الرواية تقول، إنّ معاوية لما سمع رأي أهل البصرة في زياد بهذه النقطة أجابهم: (أوليس اللحن أظرف له؟) وتفسير ذلك كما جاء في المصدر: (أي أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة، وجودة الرعاية، ومحاسن الشيم) المصدر نفسه / وفي تقديري إن تفسير معاوية أليق، لأن معاوية انطلق في تفسيره من مقترب كون عبيد الله بن زياد و اليه على خراسان، وكان ا لسؤال عن أحواله مع البصريين سياسة وعلاقة وحكما وليس عن براعته اللغوية والكلامية، وهذه قرائن تصرف معنى اللحن سواء على لسان البصريين أو معاوية الى هذا المعنى الخفي الدقيق.
إن كون لهجة عبيد الله بن زياد عجمية، وكونه يلحن هكذا، يثبت أن تربيته كانت متأثرة بالنزعة الفارسية، وإن العربية كانت بعيدة عنه بشكل من الأشكال، ويتحدث لنا الجاحظ أكثر في هذه النقطة في كتابه البيان و التبيين، فقد جاء فيه: [... ومنهم ـ المشهورين باللحن ــ عبيد الله بن زياد والي العراق قال لهانيء نم قبيصة: (أهروري سائر اليوم)، يريد أحروري... وصهيب بن سنان يرتضخ لكنة رومية، وعبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وقد إجتمعا على جعل الحاء هاء... وبعضهم يروي إنّه أملى على كاتب له فقال أكتب (الهاصل ألف كر) فكتبها الكاتب بالهاء كما لفظ بها، فاعاد عليه الكلام فاعاد عليه الكاتب، فلما فطن لا جتماعهما على الجهل قال: (أنت لا تهسن أن تكتب،وأنا لا احسن أن أملي فاكتب: (ا لجاصل الف كر) فكتبها بالجيم معجمة... وكذلك خبرنا أبو عبيدة وإنما أتى عبيد الله بن زياد في ذلك أنّه نشأ في الأساورة عند شيرويه الاسواري، زوج أمّه مرجانة، وقد كان في آل زياد غير واحد يُسمَّى شيروية، قال: وفي دار شيرويه عاد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه زيادا من علّة كانت فيه) (16).
إذن كان عبيد الله بن زياد ربيب تنشئة شيروية، فار سية، وكان هذاا لاسم معروفا في آل زياد، فليست هي علاقة عابرة، بل صميمية، ولابد أن تركت بصماتها الروحية والثقافية والفكرية في وجدان وذهن عبيد الله بن زياد، وربما في هذا السياق يمكن أن نفسر الخبر الذي يرويه لنا ابن قتيبة الدنيوري حيث جاء في عيون الاخبار: (العُننيّ عن أبيه قال: كان عبيد الله بن زياد يأكل كلَّ يوم أربع جرادق أصبهانية،وجُبنا قبل غذائه)(17) /المصدر 1 ص 251 / وربما يستكثر بعضهم على هذا الاستشهاد، وكأنه لا يعرف بان الاكل من مواد او مفردات الهوية الثقافية للإنسان، خاصة إذا كان الغذاء مادة يومية مثل الجرداق، لانه يعني الخبز!
3:
هذه الاخبار تفيد أن آل زياد ينتمون وجدانيا بشكل واضح الى فارس، ولعل من الدلائل التي تشير إلى ذلك أيضا، إن كاتب زياد بن أبيه على الخراج كان (زاذان بن فروخ) (18 / وهذا الرجل من الموالي، وقد يكون مجوسيا، وبالتالي، موطنه فارس.
لم تكن علاقة آل زياد بخراسان عادية كما قلت، ومن الادلة على ذلك، أن يولي معاوية على خراسان (عبد الرحمن بن زياد بن سمية سنة تسع وخمسين (19)، وفيما عزل معاوية عبيد الله بن زياد من ولاية خراسان سنة 53، عاد إليها بأمرة يزيد بن معاوية سنة 60، كما هو معروف.
والسؤال المطروح: ـ
هل لكل ذلك أثر على موقف زياد بن عبيد الله من الحسين وعمله؟
الجواب في فرصة أخرى.
المصادر
(1): اسد الغابة 2 / 214.
(2) طبقات بن سعد 7 /99.
(3) سير إعلام النبلاء 3 / 949.
(4) نفسه ص 495.
(5) طبقات بن سعد 99.
(6) اسد الغابة 215.
(7) اسد الغابة 215.
(8) الطبري، طبع دار الفكر 6 /105.
(9) نفسه ص 112.
(10) تاريخ الكوفة للبراقي 116، كذلك تخطيط الكوفة لماسنيون.
(11) الطبري 109.
(12) نفسه 108.
(13) طبقات بن سعد 99.
(14) الطبري ص 150
(15) سير أعلام النبلاء 454.
(16) البيان والتبيين، طبع دار المكتبة العلمية 1 ص 41.
(17) عيون الاخبار، طبع دار الكتب العلمية 1/ 215.
(18) الوزراء والكتاب للجهشياري، طبع دار مصطفى الحلبي بالقاهرة 26.
(19) الطبري 160.
التعليقات