1:
كثيرا ما ينثال قراء المنبر الحسيني بالسب والشتم على العراقيين رغم أنهم عراقيون بحجة أن اهل العراق خونة الامام علي، وغدرة الامام الحسن، وقتلة الامام الحسين عليهم السلام، وقد استسلم كثير من العراقيين لهذه التهمة الباطلة،وانساقوا معها، وحولوها الى حقيقة ساطعة في شعرهم وعزائهم الحسيني، بل ربما إنسلت إلى أمثلتهم الشعبية اليومية، ولم يفكر أحد منهم أو من المؤرخين بمراجعة هذه التهم في ضوء المعايير العلمية لقراءة التاريخ، وتمحيص اخباره ورواياته، ويبدو لي أن الحزب الاموي سابقا شارك في ترسيخ هذه التهم بحق أمة أو شعب ناضل نضالا مستميتا تحت راية هؤلاء الطيبين، بل كلفهم ولاؤهم للإئمة من أهل البيت عليهم السلام دماء عزيرة، واضطهادا قلّ مثيله في التاريخ، ولكاتب هذه السطور قراءة مطولة عن الدم الشيعي عبر التاريخ الاسلامي الطويل، منذ حادثة السقيفة ـــ ولي فيها راي خاص ــ حتى هذه اللحظة، و السبب واحد، و احد لا يتكرر تقريبا، إنه ولاء العراقيين لهؤلاء الائمة.
يقول هؤلاء ــ فيما يقولون ـ إن أهل العراق طعنوا الحسن في فخذه، ونهبوا سرادقه، واضطروه للصلح مع معاوية بن سفيان، ذلك عندما كان الحسن يستعد لمقاتلة معاوية بعد ان استلم الخلافة بعد استشهاد أبيه.
ما هي قصة تلك الطعنة وحولياتها؟
الخبر أساسا في الطبري، والطبري أهم مصدر تاريخي ليس في هذه القضية، بل في أغلب مفردات وقضايا الزمن الاسلامي كما هو معروف...

2:
يروي الطبري: (حدّثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: أخبرني أبي قال:حدثنا سليمان، قال حدّثني عبد الله،عن يونس، عن الزهري، قال: بايع أهل العراق ا لحسن بن علي بالخلافة... فلم يلبث الحسن بعد ما بايعوه إلاّ قليلا حتى طُعِن طعنة أشوته، فازداج لهم بضغا...) / المصدر 6 ص 77 / وتشير الرواية إلى أن الحسن بفعل هذه الطعنة كتب لمعاوية وطلب إليه الصلح، ويغمز الزهري بالعراقيين من طرف خفي.
الزهري لم يشر في روا يته الى اسم الطاعن، وهو (جرَّاح بن سنان)، والرجل خارجي كما جاء في تا ريخ الاسلام للذهبي ص 123 من طبعة بيروت سنة 1995 / مما يفيد أن الزهري يريد الإيهام بأن الطعنة جاءت من أتباع الحسن نفسه ! فهو فن الرواية المبطّن بهدف بعيد، فضلا عن الزهري معروف بولائه للامويين، والأمويون عموما يتطيرون شرا من أهل العراق، فهي روا ية حجازية ذات نظر، كما أن الزهري لم يبين مصدره في الرواية،وهو لم يكن حاضرا مؤامرة الطعنة ولا عملية الصلح ! هذا وللزهري رواية يبين فيها تهالك الحسن على الصلح.
يروي الطبري أ يضا: (وحدّثني عبد الله بن أحمد بن شبَّويه، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا سليمان، قال: حدَّثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: جعل علي... واستخلف اهل العراق الحسن بن علي عليه السلام على الخلافة، وكان الحسن لا يرى القتال، ولكنّه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة...) / نفسه ص 74.
هذه الرواية بذات السند السابق، ولم تتطرق إلى الضربة، ولكنّها تغمز بشكل واضح بالحسن بن علي، فهو متهالك على الصلح، بل هو صاحب نزعة استغلالية بشعة، ويمكن أن نوجه لها ذات الطعون في الرواية السابقة.
السند في الرو ايتين يعاني من مشاكل أخرى في تقديري، ففي السند: (يونس بن يزيد) يروي الحادثة عن المصدر الذي هو الزهري، ولكن (يونس) هذا كما تقول كتب الترا جم: (... مولى معاوية بن أبي سفيان...) / سير اعلام النبلاء 6 ص 297 /، فكيف نطمئن اليه في روا يته عن العراقيين والحسن؟ إضافة الى ذلك نقرأ: (... قال ابو زرعة النّضري: سمعت احمد بن حنبل يقول: في حديث يونس بن يزيد منكرات عن الزهري) / نفسه ص 299 /
يروي عن يونس (عبد الله) وهو واحد من ثلاثة، أمّا عبد الله بن رجاء المكي، وقد وصِفه الساجي بانه صاحب مناكير / تهذيب التهذيب 5 ص 311 / أو هو: (عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي) / نفسه /، أو هو: (عبد الله بن عمر النميري)، وقد وُصِف بأنه ربما يخطأ / نفسه ص 334 / والاقرب هو عبد الله بن سعيد الاموي، باعتبار أن (يونس بن سعيد) مولى معاوية بن ابي سفيان فيكون اقرب اليه من الآخرين.
الرواية إذن أمويّة !!
و... حجازية أيضا !
نحن نعرف موقف الامويين من أهل العراق بشكل عام، أهل الكوفة، إنّه موقف التشكيك والطعن، كما أن الروا ية الاموية تحاول ان تشكك بالعلاقة بين ائمة اهل البيت ا لاوائل والعراقيين بشكل عام.
في السطور التالية تتبين حقائق اخرى عن ا لرو اية المذكورة...
هناك إشارة أو قرينة مهمة أخرى قد تعزز كون الرواية أموية في الاساس، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق: (:... حدّثني علي بن محمّد، عن سعيد بن يحي، عن عمِّه عبد الله بن زياد بن عبد الله، عن عوانة بن الحكم، قال: لما... فانتهب الناس سرادق الحسن حتى نازعوه بساطه تحته، ووثب على الحسن رجل من الخوارج من بني اميّة،فطعنه با لخنجر،ووثب الناس على الاسدي فقتلوه...) / المصدر رقم 262.
هذه الرواية تستند في النهاية الى عوانة بن الحكم، ولكن من هو عوانة بن الحكم؟ تجيب التراجم: (عوانة بن الحكم بن عياض.... وقد روي عن عبد الله بن المعتز، عن الحسن بن عليل العنزي، عن عوانة بن الحكم أنّه كان يضع ا لاخبار لبني أميّة) / لسان الميزان 4 ص 386 /
هناك ملاحظة أخرى حول الإخبار عوانة بن الحكم، الأولى: إنّه توفي سنة 158 على رواية وسنة 147 على رواية اخرى، وفي كلا الروايتين من الصعب القول بانه عاصر مرحلة الصلح، فالرواية مرسلة.
يروي ابن عساكر كذلك: (... ابن ابي منيع، نا جدّي، عن ا لزهري: لما قُتِل علي... حتى طُعِن طعنة أشوته...) / المصدر رقم 262 /
هذا السند نشتم فيه الرائحة الاموية كذلك، رغم أن مجهولية مصدر الزهري كافية في الاعراض عن الرواية، ففي السند نلتقي بجد (ابن أبي المنيع) وهو: عبيد الله بن أبي زياد الرصافي، وهذا الرجل هو الذي يروي عن الزهري، تقول مصادر الرجال عنه: (... كان أخا أمرأة هشام بن عبد الملك...)، وتقول: (... قال الذهلي في عدل حديث الزهري بعد أن ذكر اسحق الكلبي وعبيدالله بن ابي زياد من أهل الرصافة، لم أعلم له راويا غير ابنه / أي بن ابي المنيع /... قال الذهبي: فهذان رجلان مجهولان من أصحاب الزهري) / راجع تهذيب التهذيب 7 ص 14 /
إنها رواية أموية بامتياز....

3:
يروي الطبري: (وحدّثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثّني عثمان بن عبد الحميد او ابن عبد الرحمن الحرّاني الخزاعي أبو عبد الرحمن، قال: حدَّثنا إسماعيل بن راشد، قال: بايع الناس الحسن بن علي عليه السلام بالخلافة،ثم خرج حتى نزل المدائن.... فبينا الحسن في المدائن إذ نادى مناد في ا لعسكر: ألا إن قيس بن ساعدة قد قتِل فانفروا، فنفرواونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا كان تحته... ثم قام الحسن في اهل العراق فقال: يا أهل العراق، إنه لسخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إيّاي، وانتهابمك متاعي) / المصدر ص 74 /
ماذا يقول علماء السند في هذه الروا ية؟
في السند: عثمان بن عبد الرحمن بن مسلم الحرّاني، متَّهم بالكذب، وأنه يروي عن الضعفاء، / تهذيب التهذيب 7 رقم (280).
ولكن منْ هو مصدر الرواية؟
هو: إسماعيل بن راشد، وهذا الراوي تكرر ثلاث مرّات في تاريخ الطبري، يروي قصة مقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام، وخبر نهب السرادق والأنقضاض على الحسن بن علي ـ الروا ية التي نحن فيها ــ، وخبر آخر يتحدّث عن افتعال موسى الاشعري كتابا على لسان معاوية بن أبي سفيان !
لم أجد له ذكرا في الكتب الرجالية التي عندي، نعم، هناك (إسماعيل بن اسحق بن راشد)، في كتب الرجال الشيعية، ولكن يُعد في خانة المجهولين !
الملاحظة الاخرى في هذه الرواية، أنّها تشير الى أن هنا استنفارا حصل بسبب الدعاية المغرضة، وجو الرواية يفيد أن الاستنفار بصدد اخذ الحذر من العدو، فيما انقلب ضد الحسن !!
اما عن خطبة الحسن في اهل العراق وتهجمه عليهم بهذه اللغة، أي ما جاء في ذيل الرواية فسوف اناقشه عندما اتعرض لرواية الكا مل لابن الأثير.

4:
يشير أكثر من مصدر إلى أن الحسن تعرض لحادث الاغتيال هذا، نقرا ذلك في اليعقوبي أن معاوية دسَّ في جيش الحسن ما يُشعر بان الحسن صالح معاوية قبل أن يحصل الصلح (فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها،فركب الحسن فرسا له، ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن (الجرّاح بن سنان الاسدي)، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجرّأح ثم لواها فدق عنقه) /2 ص 215 / ونقرا في المسعودي رواية مرسلة تقول: (... وقد كان أهل الكوفة انتهبوا سُرادق الحسن ورحله، وطعنوا بالخنجر في جوفه، فلما تيقّن ما نزل به انقاد الى الصلح) / المصدر 3 ص 9، والرواية مرسلة، وفيها أن الطعنة كانت في الجوف، فيما يروي آخرون إنها كانت في الفخذ !
ويروي البلاذري الحادثة ذاتها ولكن باسلوب الاسناد الجمعي، اي: (قالوا...)، وهو سند ضعيف بطبيعة الحال (قالوا... اشركت يا حسن كما أشرك ابوك من قبل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه...) / المصدر تحقيق المحمودي ص 35 /
يروي الكامل قصة تسليم الحسن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان مرسلا، ولم يذكر قضية الطعنة بشكل مفصّل وصريح، خال من الاسماء، وإنما يستطرد بذكرها طبق رواية (اسماعيل بن راشد) التي مرّت علينا، فهو يقول: (... فلما اصطلحا قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق إنّه لسخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إيّاي، وإنتهابكم متاعي) / المصدر 3 ص 404 /
يغيب في رواية الكامل اسم الطاعن، وبعض مجريات العملية، مما يعني أنه غير مطمئن الى بعض المعلومات التي يوردها الطبري وغيره.
ولكن هل من المعقول أن يخاطب الحسن بن علي العراقيين بهذه اللهجة؟
كيف اطمئن إذن إليهم وجيشهم ضد معاوية وهم الذين قتلوا اباه؟!
أن الحسن بهذا الهجوم إنّما يدين نفسه قبل أن يدين العراقيين، لانه لم يتعظ من قتل العراقيين لأبيه، فهل الحسن عليه السلام بهذه الدرجة من الغفلة والسهو؟
أليس هناك من يرد على هذه الخطبة الهجومية اللاذعة، خاصَّة وأن رواية (الكامل)، وقبلها رواية (الطبري عن اسماعيل بن راشد) تُشعِر أن الحسن قال هذا بحضور العراقيين، ووسط عملية التسليم؟!
إنها واضحة الصنع من أجل الإساءة الى العراقيين بلسان الحسن نفسه !
لعبة ذكية...
يروي صاحب الاخبار الطوال خبر الطعنة ولكن مرسلا / المصدر ص 216

5:
يروي صاحب المقاتل مرسلا أن شيعة الكوفة شككوا ببعض تصرفات الحسن، وظنوا منها انه يريد الصلح، فقالوا: (... نظنه والله يريد أن يصالح معاوية،ويسلم الامر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل، ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاّه من تحته، ثم شد ّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جمال الازدي، فنزع مطرفه من عاتقه... ثم دعا فرسه فركبه، واحدق به طوائف من خاصّته، ومنعوا من أرا ده، ولاموه وضعّفوه لما تكلم عنه، فقال: إدعوا لي ربيعة وهمدان، فدعوا له، فاطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم شوب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد يقال له الجرّاح بن سنان، فلمّا مرّ في مظلم ساباط قام إليه، فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، فقال: ألله أكبر يا حسن، أ شركت كما أشرك أبوك، ثم طعنه، فوقعت الطعنة في فخذه...) / المصدر ص 72 تحقيق أحمد صقر /
هذه الرواية تشبه الفيلم، تُرى أين همدان وربيعة وهي تحيط بالامام الحسن عليه السلام من هذا الوغد؟
ولكن ما يقول الرجاليون في روا ية أبو الفرج الاصفهاني؟
ينكرونه من السنة والشيعة معا!

6:
أن العمدة في قضية طعن الحسن بن علي هي رواية الطبري وابو الفرج الاصفهاني، وكلا الروايتين مرتبك، ثم أن الزهري يتجاهل نقطة مهمة، حيث تفيد كثير من الاخبار أن الحسن كان في البداية مقبل حقا على مقاتلة معاوية بن أبي سفيان.
فقد اتخذ الحسن مجموعة اجراءات لا تشي إلا بان الحسن عازم على مواصلة خطة ابيه، فقد بعث برسائل الى معاوية يدعوه فيها الى البيعة، وكان قد زاد المقاتلة مائة بالمائة، وكان قد قتل جاسوسين بثهما معاوية في الجيش العراقي، وقبل ذلك وجّه عماله الى السواد والجبل، ومن ثم نقرا عندما بلغه أن معاوية سيِّر جيه نحو العراق: (تجهَّز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا،وسار من الكوفة إلى لقاء معاوية، وكان قد نزل مسكن، فوصل الحسن الى المدائن، وجعل قيس بن سعد بن عبادة الانصاري على مقدمته في إثني عشر ألفا) / كامل ابن الاثير 3 / 271، ومصادر أخرى تتحدث بهذا الاتجاه.
إن موضوع طعن الحسن كان مؤامرة خارجية وليست عراقية بايد أصحاب الحسن، هذا إذا صح خبر الطعن، وأما نهب سرادقه فهي أيضا عملية خارجية وليس للعراقيين من مخلصيه ومحبيه علاقة بذلك، إن صحّت رواية النهب هذه.