وهم التاريخ

يتحدث كثير من المؤرخين والكتاب وقراء المنبر عن الرسائل كان المتبادلة بين علي عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان، وتحوّلت هذه الرسائل او الكتب المزعومة الى ثقافة سارية كما يسري المثل، ولما كانت بعض مضامينها اتهامات واحيانا سباب متبادل ومفارقات تحوّلت هذه الثقافة عوامل حيوية في تصديع بنية المجتمع الاسلامي، وتشقيق وحدته الروحية والزمنية، ولذا ادعو مخلصا أن نعيد قراءة نصوص القرن الاول والثاني الهجريين، سواء كانت النصوص تاريخية او أدبية أو روائية، فسوف نجد أنفسنا بعد القراءة الجادة إننا صريعو اوهام!
هذه الرسائل المزعومة جزء من تلك الاوهام، وقد أخترت فترة تاريخية محددة، تلك هي فترة مكوث علي عليه السلام في الكوفة، بعد مجيئه من البصرة (12 رجب ــ 5 شوال) سنة 36 للهجرة، أي أكثر من شهرين تقريبا.

أوَّل الغيث
يشير المؤرخ الشيعي نصر بن مزاحم (ت 212) أنه لم تكن كل الكوفة متمحِّضة للإمام علي، وكان فيها ممِّن تخلف عن نصرته في حرب الجمل، منهم على سبيل المثال سليمان بن صرد الخزاعي، ومنهم من تميم وغيرها (1)
وكانت حواراته معهم تتسم بشيء من القسوة، فهو يقول لسليمان: (ارْتبت وتربّصت وراوغت) (2)، ويؤنب بعضهم: (ما بطأ بكم عني وأنتم اشراف قومكم؟ إنكم لبور) (3)، ولكن الآفة في هذه الروايات إنّها ضعيفة، فإن مصدرها هو: (عمر بن سعد بن أبي الصيد ا لأسدي)، فقد جاء في ميزان الاعتدال: (... شيعي بغيض، قال ابو حاتم: متروك الحديث) (4)، ولم يوثّقه علماء الرجال الشيعة / (5)، وهذا الرجل يروي عن الضعفاء بشكل مسرف، ورايات نصر عنه عن ضعفاءه كثيرة وتغطي المساحة الاكبر من كتابه!
ويروي البلاذري كلام علي مع سليمان بن صرد الخزاعي، ولكنّ الشيخ محمد باقر المحمودي محقق الكتاب يضعِّف البلاذري / (6).
إذ صح هذا الموقف من سليمان وفيما نضم إليه موقفه من خروج الحسين ثم ندمه ربما يفيدنا بالاستنتاج إن سليمان كان شخصية قلقة.

أصل ولا مضمون
الذي يهمني من هذه الفترة المراسلات بين أمير المؤمنين علي وبين معاوية، فلم يرد منها شيء في الطبري واليعقوبي والمسعودي وكثير من المصادر، نعم، إنها تذكر بان عليا عليه السلام ارسل جرير بن عبد الله البجَلي الى معاوية يدعوه الى البيعة، وقد رجع بخفي حنين من معاوية إلى الكوفة، وتذكر بعض المصادر أن عليا بعث مع جرير كتابا، ولكن هذه المصادر تخلوا من مضامين هذا الكتاب إنْ وجِد.
يذكر البلاذري أن عليا بعث مع جرير كتابا، ولم يبين لنا المضمون (7)، ولكن ينبري نصر بن مزاحم (ت 212) ليفصح لنا عن بعض مضامين هذا الكتاب، وكان ممّا فيه:(... فإذا اجتمعوا ـ المهاجرين والانصار ــ على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا... واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشورى...) (8)، ويروي مزاحم ان معاوية لما قرا كتاب علي استنهض اهل الشام بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستجابوا (وبايعوه على ذلك) (9).
نقطة الضعف في رواية نصر هي سنده!
يروي في مكان آخر: (المدائني، عن عيسى بن يزيد الكناني،إن عليا لما بعث جرير بن عبد الله الى معاوية ليأخذ له البيعة، قدم جرير عليه وهو جالس، والناس عنده، فأعطاه الكتاب...) (10).

الرواية مرسلة!
إن الرواية تتحدث عن الكتاب من حيث الاصل، ولم تتطرق إلى مضامين الكتاب وهو الأهم في بحثنا هذا.
روى الدينوري (ت 282) بعض هذا الكتاب في الاخبار الطوال، ولكن بلا سند (11).
رواها كذلك ابن قتيبة (ت276) في الامامة والسياسة (12) بغير سند إضافة لذلك إن الكتاب نفسه مشكوك النسبة لابن قتيبة.
رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد (13 )، ولكن من دون سند، كما هو حال كثير من مصادر الادب والشعر والسمر.
روى الكتاب ابن اعثم المتوفي سنة 314 للهجرة، (14) باسانيد متداخلة قائلا: (وقد جمعتُ ما سمعت من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فالفته حديثا واحدا على نسق واحد...) (15)، وتعدد السند مع تداخل المتن مذموم في الرواية، فضلا عن أن ابن عيثم لا يُحسب مؤرخا قدر كونه (حكواتي) إذا صح التعبير، بل كتابه اشبه بالافلام الاستعراضية منه إلى السرد العلمي، يثير الخيالات والعواطف والحماس، فهو اشبه بكتب الدعاية اليوم!
يضعف الذهبي ابن اعثم بقوله: (... كان شيعيا وعند اصحاب الحديث ضعيف) (16)، وهناك غموض في حياة بن اعثم، فلم يذكر لنا المؤرخون لنا عن ولادته وعائلته وشيوخه، رغم أن ياقوت الحموي سمّاه شاعرا، ولكن ذلك لا يكفي.
إن الذي يطالع كتاب الفتوح يجد فيه ثغرة منهجية مهلكة، فهو طالما يقطع حديثه عن موضوع معين بشكل مفاجيء، مما قد يشير إلى أنه لم يكن يعطي لسرده المزيد من الانتباه والدقة، وليس هنا محل الاستشهاد.
روايته عن معركة صفين عن شيوخ مباشرين ولكنها تنتهي بالارسال( 17).

روايات مرسلة بالمجان!
يروي البلاذري عن اسحق بن يسّار: (أن عليا كتب الى معاوية يدعوه الى بيعته وحقن دماء المسلمين، وبعث بكتابه مع ضمرة بن يزيد، وعمرو بن زرارة النخعي، فقال معاوية: إنْ دفع إليَّ قتلة ابن عمي وأقرّني على عملي بايعته، وإلاّ فإني لا أترك قتلة ابن عمي، وأكون سوقة؟ هذا ما لا يكون، ولا أقار عليه) (18).

الرواية مرسلة.
الرواية في كتاب جمهرة الامثال للعسكري 2 ص 158، من طريق الزهري: (... عن عوانة، ويزيد بن عياض، عن الزهري قال: ورد علي عليه السلام الكوفة فعاتب قوما لم يشهدوا معه الجمل... فكتب إلى معاوية مع ضمرة بن يزيد الضمري وعمرو بن زرارة النخعي يريده على البيعة...).
الرواية ضعيفة بـ (عوانة)، وقد طعنوا كثيرا في (يزيد بن عياض) كما في تهذيب التهذيب (19)، فضلا عن كون الرواية مرسلة، لان الزهري لم يشهد صفين!
يروي لنا البلاذري أيضا: (قالوا: وكتب علي عليه من طريقه إلى معاوية ومن قبل كتابا يدعوهم فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه... فكتب إليه معاوية... فقال علي: قاتلت الناكثين...) (20).

الرواية مرسلة!
وحديث قاتلت الناكثين والقاسطين والمارقين سوف اناقشه في فرصة سانحة بإذن الله.

مصيبة نصر بن مزاحم!
يروي نصر بن مزاحم نصر أن (جرير البجَلي) مكث مدة في الشام حتى (21)، ويروي نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله عن الجرجاني ان معاوية جاء جرير الجبلي في منزله وقال له: (اكتب إلى صاحبك يجعل اليّ الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بيعة في عنقي، واسلم له هذا الامر، واكتب إليه بالخلافة) (22)، وتقول رواية نصر أن جرير قال لمعاوية بانْ يكتب ذاك إلى علي، وبالفعل إنه كتب إلى علي بذلك، وتستمر الرواية لتخبرنا أن عليا كتب إلى جرير بخصوص كتاب معاوية بالشرط: (أمّا بعد، (23)، وتذكر الرواية أن جرير اطلع معاوية على كتاب علي (24).
روى ذلك صاحب النهج ورواياته من غير سند متصل كما هو معلوم، ولذلك لم يأخذ كثير من العلماء بكثير من رواياته.
تقول رواية نصر السابقة، أن معاوية عندما قرا جواب علي الانف لجرير بخصوص شرطه للمبايعة قال لجرير: (ألقاك بالفيصل أول المجلس إن شاء الله)(25).
وتستمر الرواية : [ فلما بايع معاوية أهل الشام وذاقهم قال: (ياجرير الحق بصاحبك) وكتب إليه بالحرب ] / المصدر ص 57 /، أي كتب الى علي بالحرب.
رواية نصر ضعيفة، لانها منقطعة على أقل تقدير، فمصدرها الجرجاني، أضف إلى ذلك أن نصرا لم يذكر لنا شيئا عن فحواها!
الشيء الغريب حقا أن نصرا يروي لنا مضمون كتاب علي إلى معاوية بالتفصيل، ولكنه لم يرو لنا مضمون كتاب معاوية الى علي وهو يرفض دعوته للبيعة، ويهدده بالحرب!
الغريب أنه ينوه بالكتاب، ولكن دون أي إشارة إلى أي مضمون، ترى لماذا هذه ا لمفارقة؟!
هنا تتدخل رغبة ترميم التاريخ، حيث نقرا كتاب الحرب هذا الذي بعثه معاوية الى علي عليه السلام بعد أن رفض عليه السلام نحله خراج الشام ومصر، وذلك في كتاب (الكامل) للمبرد (ت 285)، فقد جاء فيه: (... من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب، أما بعد فلعمري...) (26)، وفيها يناقش حجج علي بن أبي طالب باستحقاقه الخلافة بسبب بيعة الأنصار والمهاجرين، وبما له من شرف في القربة من رسول الله، وما قدمه للاسلام من خدمات معروفة، ويتضمن الكتاب سبا مقرحا بعلي، وإساءات مقرحة بحقه، ويحمِّله مسؤولية قتل عثمان بشكل وآخر!

رواية المبرِّد بلا سند!
روى مضمون الكتاب مرسلا ابن قتيبة، وفيه زيادة مهمة على ما ذكره المبرِّد، وهي قول معاوية: (... وقد كان أهل الحجاز الحكام على الناس وفي ايديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام) (27).
الرواية مرسلة، فضلا عن أن هناك شكا بنسبة الكتاب لابن قتيبة!
روى ذلك ابن عبد ربه في العقد الفريد مرسلا (28).
يروي لنا نصر بن مزاحم بالسند نفسه لانّها رواية واحدة متصلة جواب علي على كتاب معاوية (الحربي!)، ومما جاء فيه: (... وأمّا قولك ان أهل الشام هم الحكا م على أهل الحجاز فهات رجلا من قريش الشام يُقبَل أو تُحَل له الشورى... وأمّا فضلي في الاسلام وقرابتي من النبي صلى الله عليه واله وسلم وشرفي في قرش فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته) (29).
ينقله العقد الفريد، والامامة والسياسة، وغيرها من المصادر الثانوية، مرسلا.

مصدر غريب
أغرب المصادر في هذه المراسلات هو كتاب (خصائص أمير المؤمنين للخوارزمي) المتوفي سنة (568) للهجرة، فهذا الراوي يخبرنا بأن عليا كتب كتابه الى معاوية يطالبه بالبيعة قبيل تحركه الى صفين، وإن معاوية أجابه بعد حرب الماء، وان عليا اجابه بكتاب ارسله بواسطة الاصبغ بن نباتة!!! (30).

كتاب جديد!
تقول رواية نصر بن مزاحم: (نصر، عن عمر بن سعد، عن أبي روق... إن أبا مسلم الخولاني قدم إلى معاوية في أناس من قرّاء أ هل الشام، قبل مسير أمير المؤمنين إلى صفِّين، فقال: يا معاوية علام تقاتل عليا...) وتستمر الرواية لتخبرنا أن معاوية أقنع الخولاني هذا بانه يمتنع عن قتال علي فيما سلّم علي قتلة عثمان للإقتصاص منهم، وإن معاوية حمّل الخولاني كتابا بهذا الخصوص إلى علي، وتدعي الرواية أن الخولاني حط الكوفة فعلا، وسلم الكتاب عليا، وإن عليا قرا الكتاب وأجابه بكتاب (نقضي) وسلمه للخولاني الذي بدوره عاد الى الشام ليسلم الكتاب معاوية بن ابي سفيان.
السند ضعيف، فإن عمر بن سعد مذموم جدا عند السنة، وغير موثق عند الشيعة، ثم أن ابو روق (عطية بن الحارث الهمداني الكوفي) موثّق عند السنة بتساهل، وغير موثّق عند الشيعة، وأخيرا وليس آخرا، الرواية مرسلة لان ابو روق تابعي.
البلاذري ينص على الكتابين معا، أصلا ومضمونا، برواية من طريق أبو روق الهمداني الذي مرّ الكلام حوله (31)، فقد جاء في انساب الاشراف: [ فكتب إليه (معاوية) فيما ذكر الكلبي، عن أبي مخنف، عن أبي روق الهمداني: بسم الله الرحمن الرحيم...)(32).
يروي ابن ابي حديد الكتاب عن نصر بن مزاحم، كذلك نقرا نص الكتابين في العقد الفريد لابن عبد ربه، وهذا الكتاب لا يمكن الاعتماد عليه في تدقيق النصوص التا ريخية المهمة، لأن اخباره مرسلة أغلب الاحيان، وهكذا مع الكثير من كتب واسفار الادب والشعر والحكايات والمواعظ، كذلك الخوارزمي في مناقب أمير المؤمنين ص 175. ويروي الكتابين أصلا ونصا الخوارزمي ولكن يؤرخ للكتابين بعد صفين، بل بعد المعركة الشرسة على ماء الفرات، ويذكر الخوارزمي ان عليا كتب لمعاوية كتابا شديد اللهجة، وإن أبو مسلم الخولاني سمع بنص الكتاب في حضرة معاوية، فحاججه وطلب منه أن يكتب لعلي ردا على كتابه، فكتب معاوية بذلك واخذه الخولاني هذا الى علي عليه السلام، وكل هذا خلط واضح بالزمان والتاريخ، وقد أورد الخوارزمي كل ذلك من دون سند معتبر، أضف إلى ذلك أنه ليس مؤرخا.
روى ذلك أيضا ابن عساكر في تاريخه في الجزء الذي ترجم فيه لمعاوية بن أبي سفيان، والرواية ضعيفة!

الوهم هو الخلاصة
الذي اريد أن اخلص إليه، أن هذه الكتب المتبادلة بين علي عليه السلام ومعاوية مشكوك بها، لانها ضعيفة السند، ومضطربة الخبر، وفيما نقول أن مثل هذه الكتب موجودة ولو على سبيل كتاب واحد، فإن المضمون لا يمكن أن طمئن إليه مادامت المسانيد بهذه الهشاشة، فضلا عن أن بعض تضاعيف المتن مثيرة للشك...

وبالتالي:
هل تصح مثل هذه الروايات لئن تكون مصدر تشييد تاريخ مضبوط؟
وهل من المعقول أن تتحول مضامين هذه الكتب المشكوكة ثقافة، بحيث نؤسس عليها مواقف ومذاهب، وقد تكون أحيانا سببا في سفك دماء، وإزهاق ارواح، وحروب أهلية طاحنة؟


المصادر
(1): وقعة صفّين، تحقيق عبد السلام هارون ص 3 ـ 7.
(2): نفسه.
(3): نفسه ص 7.
(4): ميزان الاعتدال 2 / 256.
(5): معجم الرجال 13 رقم (8744).
(6): انساب الاشراف تحقيق المحمودي،طبع دار الاضواء ص 187.
(7): نفسه ص 195.
(8): وقعة صفين ص 32.
(9): نفسه ص 34.
(10): نفسه ص 195.
(11): الاخبار الطوال ص 157.
(12): الإمامة والسياسة، دار الاضواء، تحقيق علي شيري، 1 / 113.
(13): العقد الفريد، طبع الدار العصرية، بيروت، 5 / 78.
(14): فتوح ابن اعثم الكوفي، دار الاضواء، تحقيق علي شيري،2 / 506.
(15): نفسه 2 / 489.
(16): لسان الميزان 1 / 138.
(17): فتوح بن اعثم 1 / 489.
(18): البلاذري 203.
(19): تهذيب التهذيب 11 رقم (678)
(20): البلاذري 207.
(21): العقد الفريد 5 / 78.
(22): فتوح ابن اعثم 1 / 53.
(23): نفسه 53.
(24): نفسه 57.
(25): نفسه 57.
(26): الكامل بالادب والتاريخ، طبع مؤسسة المعارف 1 / 191.
(27): الإمامة والسياسة 1 / 121.
(28): العقد الفريد 5 / 78.
(29): وقعة صفين 59.
(30): مناقب امير المؤمنين للخوارزمي، تحقيق جعفر سبحاني، 204 ـ 205
(31): البلاذري 187.
(32): نفسه 187.