1:
لا أتكلم عن الثقافة كما تطرحها المدارس الميثولجية، تايلور على سبيل المثال، حيث يكاد أن يكون تعريفه شبه سائد، ولا حتى بالمعنى الفرويدي الذي يرى في الثقافة تهذيبا للطبيعة، تحد من غلوائها وجموحها وطموحها الهائل في سحق الانسان، الثقافة التي اتحدث عنها القدرة الفكرية على الخلق والابداع، اجتراح مفاهيم جديدة بسبب تأسيس واقع جديد يتسم بالنشاط الخلاق، والعطاء المثير، تنويع الحياة ايجابيا وذلك بكل تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والجمالية، تثوير القدرات البشرية على طريق عقلنة الوجود، ترشيح القيم الخيرة البناءة من خلال صراع شرس مع الواقع المتخلف... من الصعب أن نضع هنا تعريفا، فأصل تعريف الثقافة أصبح غير ذي بال في أكثر المدارس الاجتماعية بما فيه المدارس الاجتماعية الامريكية، ولكن نشير إلى عينات، والتعريف بالمثال يحتل اليوم مدرسة متقدمة حتى في الفكر المنطقي الصلب.

2:
الثقافة بهذه المقتربات الخلاقة المُنتجة تعاني أزمة كبيرة عميقة في العراق، وهي أزمة قمع قبل أن تكون أزمة مثقفين، أزمة محاصرة وتهديد وتحجيم وتشكيك أكثر من كونها أزمة قاص ينتج رواية ناجحة أو أزمة شاعر يعجز عن خلق قصيدة جميلة أو أزمة نحات يملك قدرة على ابداع نصب مثير أو أزمة مفكر يحلق بنا فلسفيا... وإذا ما كانت الازمة بهذه الهوية و النكهة، فهي بسبب القمع...

3:
قمع الثقافة، تباعا، قمع المثقفين ظاهرة أكثر من كونها سياسية، قمع منظم، قمع مدبر، ثم هو قمع شعبوي، مخيف، ا لمجتمع العراقي غارق في الطقوسية، شئنا أم أبينا، يكاد أن يكون مجتمعا طقوسيا، والطقوسية ليست دينية بالضرورة، بل قد تكون على تضاد مع فهم راق ومتقدم وفاعل للدين، بل قد تكون علمانية بحتة، لا يمكن أن ننسى الطقوسية الماركسية، لها نكهتها، ولها جذورها، هذه الطقوسية الدينية أو الاديولجية تتناقض مع الثقافة بمعناها أو بروحها الخلاقة، إنها تجير كل الحياة لفهم خاص، لرؤية خاصة، المجتمع الطقوسي أحادي الجانب تقريبا، يهرب من التنوع، يخاف الحركة إلى أمام، يتعبد مظاهر خاصة، عادات خاصة، سلوك خاص، لست هنا أتحدث عن الجانب المادي من العلم، التكنولجيا، بل عن الفلسفة، عن الادب، عن الفن، عن التربية، راكد هذا المجتمع حتى لو تعامل مع أروع نتاجات العلم.

4:
المجتمع العراقي عشائري، او بتعبير أدق قبيلي، القبيلة اليوم في العراق ليست وحدة اجتماعية قرابية، بل وحدة اجتماعية سياسية، تقود المجتمع، تصارع من أجل القيادة السياسية، القبيلة قضاء وأحكام وحقوق وتطلعات ونظم وعادات وتقاليد، لها وزارتها الخاصة بها، ولها روادها ورموزها، شاركت في العملية السياسية بسنن طقوسية، فالعشيرة تصوت لمن يصوت رئيسها، لمن يصوت الرجل القوي فيها، الديمقراطية في ظل توجه عشائري انتخابي إنما هي ديمقراطية أشبه بالبيعة، ليست انتخا ب، ليست أختيار بالمعنى العلمي للاختيار، أو ليست اختيارا واعيا، بل اختيار محسوب بقيم الانتماء العشائري قبل كل شي، مجتمع كهذا يقمع الثقافة، يقمع المثقفين، لا ثقافة مبدعة، لا ثقافة نيرة في مجتمع منكفيء على القيم القبيلية، كيف ينتج، لا يملك الجرأة على التخطي، على كسر شيطان الجمود، الكسل، التطلع إلى مابعد حدود العشيرة، القبيلة، مجتمعا ووطنا وقيما وحكما وصراعا ومصالحا.

5:
هنا يشخص قمع السلطة، السلطة في العراق حصيلة صراعات ليست مدينية، بل حصيلة صراعات عرقية، طائفية، عرقية، وبالتالي، تموت الثقافة، لا تملك بيئتها، لا تملك ساحتها، بيئة الصراع العرقي و الطائفي والقبيلي على السلطة تخلق ثقافة منحازة، ضيقة، خانقة، ثقافة التنافس غير الشريف، ثقافة الكسب على حساب الحقيقة، على حساب القيمة الاجتماعية الكبرى... العدل...
ثم...
ما ذا تنتظر من سلطة لم يعرف رجالها بشكل عام الانتاج الثقافي؟ خطاب السلطة الان لم يتسم بأي سمة ثقافية، هناك مفردات سياسية روتينية مملة!
عسكري وزير ثقافة!
هذه المفارقة لا يفسرها سوى كون المجتمع طقوسي، قبيلي، ولو كان المجتمع مديني، متطلع، خارج حدود الأسر القبيلي والطائفي والطقوسي لما أفرز مثل هذه المفارقة الغريبة حقا...
طبيب بيطري وزير تخطيط!
هل نحن بين يدي مجتمع مديني متحضر؟!

6:
ولكن هذا لا يعفي نفس القطاع الثقافي من النقد، فما زال المثقف العلماني يسخر من المثقف الاسلامي حتى لو أن هذا المثقف طرح القضية الدينية في ضوء أروع ما أنتجته الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع، وما زال المثقف الاسلامي يتهم المثقف العلماني بالتحجر والالحاد والكفر والزندقة...
الحقيقة، إن هذه الازمة متفرعة على أزمة المجتمع ذاته، وبالأبعاد التي سقت بعضا منها في مستهل كلامي...
الثقافة عندما تتحول إلى نمط من التصور، وإلى منظومة كلاسكية تنتمي حصرا إلى أفق اديولجي وديني معين إنما تؤسس لنا لمجتمع مغلق، يقوم على قاعدة النفي...
شخصيا أدعو إلى ثقافة بلا حدود، ثقافة يتجاور في فضائها الا يمان والكفر، في حوار مديني متحضر، ثقافة اللغات المتعددة، ثقافة العقول المتنوعة، ما زلت أحن لصورة (الحيرة) يوم كانت مرجلا من الطروحات الدينية، ومازلت أحن للقرن الرابع الهجري، كانت بغداد مرجل الفكر، الاخباري الى جانب العقلي، الفقيه الى جانت الكلامي، الفلسفي إلى جانب الصوفي، معركة شرسة، وإن أدت أحيانا الى دماء، ولكن كانت من حيث المبدا ثورة وجدانية، ولهب روحي خلاق...
المثقفون العراقيون الجادون مدعوون الى ثورة كلمة شفافة وقوية في آن واحد، يبدأونها من الداخل، داخلهم، ثم يصدعون بها في عمق المجتمع...
هل السلطة السياسية في العراق سوف تتجاوب مع المثقف العراقي وهو يسعى لخلق مجتمع منفتح، حر، كريم، تعددي؟
أشك بذلك...
مهما كانت هوية السلطة...
هل نبدا؟