انا من أنصار نبش الماضي، وليس أهماله، فإن اهماله يعني الاستسلام له، فإذا علمنا من جهة أخر ى، أن الماضي لا يندثر تماما، وإنه يشيد طبقاته اللاشعورية في داخلنا شئنا أم ابينا، أكون قد اصبت كما أتصور عندما أكتب عن الماضي بلغة نقدية، وإن تكون جارحة في بعض الاحيان...
وهذا هو شهر محرم الحرام يطل علينا بكل معقوله ولا معقوله، بكل وهمه ووهجه، بكل لغطه وحقائقه، فارى من المناسب جدا أن نسلط بعض الاضواء على جوهر الحدث في محرم الحرام، وجوهر الحدث في محرم الحرام هو مأساة الحسين، ما يسمونه ثورة الحسين عليه السلام وليس تاسيس الدولة الإسلامية كما يدعون، هذه الدولة التي غمض معناها، وتعددت رؤاها، وتشابكت الآراء بصددها، حتى ضاعت علينا الحقيقة...
أني اسطر المقاربات الصادمة التالية فيما يخص (عمل) الحسين عليه السلام، ذاك الشهيد بن الشهيد أبو الشهداء...

1:
هناك روايتان عن هذا العمل، الرواية العراقية على لسان الاخباري التراجيدي (ابي مخنف) والرواية الحجازية على لسان عمار الدهني، عن الإمام الصادق عليه السلام، وأرى أن رواية هذا الاخير اسد من رواية أبي مخنف، وسبق أن تحدثت عن شيوخ هذا الرجل في ايلا ف وبينت إن النسبة الغالبة من شيوخه أما مجاهيل أو ضعاف.
2:
فيما قرأنا النصوص المتواجدة بين أيدينا بدقة ومعقولية وواقعية وبعيدا عن المسبقات الاديولجية، لتوصلنا إلى نتيجة ذات درجة احتمالية عالية، أن الحسين عليه السلام كان يطلب الحكم فعلا، لست معنيا بالروايات الغيبية، انا اتحدث عنا تا ريخا، لا عقيدة، ومن حقه أن يطلب الحكم فهو أكثر من غيره جدارة حسب مقاربات ومقا ييس ذلك الزمن.

3:
إن الحسين لم يطلب الحكم بطريقة عسكرية، لم يكن في نيته القتال، كان يريد استلام الحكم بطريقة مدنية، لقد استقدمته كتب أهل الكوفة، ولم لم يكتب له مسلم بن عقيل بهذا التأييد الجماهيري العريض لما قدم الحسين الكوفة، ولما جاء، وانقلبت موازين القوى حاول جهده أن يتجنب القتال، كان يرفض النزال، كان يصر على السلام، وحقن دماء المسلمين، تماما عكس جيش عبيد الله بن زياد ـ وكان غرسة فارسية بامتياز ـ

4:
لم تكن الجموع التي قاتلت الحسين عليه السلام بتلك الاعداد الخيالية، مئة الف، او ستين ألف، أو خمسين ألف، لقد انهى المحققون العدد إلى أربعة آلاف على أكثر تقدير، هذا هو العدد الذي تفيده حتى رواية أبي مخنف، الروايات الاخرى التي تفيد بتجييش كل أهل الكوفة ليس لها سند معتبر، حتى في البلاذري، هناك تضخيم مقصود هنا، فضلا عن التضخيم العددي على صعيد القوات العسكرية والكتب المؤلفة والاموال المبذولة كرما وتبرعا... كل ذلك كان سليقة عربية معروفة.

5:
لم يكن الفرس بعيدين عن مقاتلة الحسين، كانوا شركاء في ذلك، الديلم بقيادة عمر بن سعد الذين استقدمهم يزيد بن معاوية رجوعا بعد أن كانت الخلافة قد وجهته لتاديب الفرس الخارجين عن الطاعة، جيش الديلم هذا رجع مع قائدة الى الكوفة، وهناك اختلط بالمقاتلة التابعين لعبيد الله بن زياد.

6:
كان أبرز ما فرزته الممارسة الحسنية في المعركة هي القيم، القيم الاخلاقية الإسلامية الإنسانية الرائعة، لقد كان موقف الحسين عليه السلام من الحر يشرف التاريخ كله، فرغم أن الحر كان المسؤول عن (جعجعة) الحسين، وجره مرغما إلى الكوفة، ورغم أنه كان من أبرز قواد ومستشاري عبيد الله بن زياد، إلا أن الحسين عفا عنه عندما استعفاه (أنت حر كما سمتك امك)، ترى أين هي العقيدة التي تخلق مثل هذا التسامي الرائع لو لم تكن عقيدة مدعمة من الايمان بالغيب إيمانا حقيقيا، وليس كإيمان اساطين الإسلام السياسي اليوم في العراق وايران ومصر وباكستان، لقد أخزوا هذا الدين وطعنوا في ضمير محمد، أنها الأيادي التي تتوضأ بالدم البريء!

7:
أن أهم نتائج هذه الثورة هي بث روح الثورة في جسد الامة الإسلامية ضد الظلم والطغيان، إن الثورة على عثمان كانت مشوبة ببعض النزعات الشخصية، ولكن ثورة الحسين عليه السلام، أو عمل الحسين عليه السلام كان ذا نزعة موضوعية إلى حد كبير، إنها ثورة قيم، ثورة اخلاق، وكانت ثورة مستقبل، لقد كان عمل الحسين بسمار قوي في نعش الدولة الاموية، هذا باتفاق الباحثين والمؤرخين.

8:
لم تستغرق العملية أكثر من ساعات، وما ورد عن الاعداد الكبيرة من القتلى والجرحى، وعدد الجروح في جسد الحسين وغيره من اصحابه، هذه المبالغات أضرت بثورة الحسين، وحولت ثورة هذا الرجل الصالح إلى اسطورة وليس إلى درس، إلى موكب خرافي وليس إلى حقيقة تاريخية موضوعية خاضعة لسنن التاريخ الواقعي ومن الممكن أن نستلهمها بدقة وعلم وحساب، أن هذه المبالغات يحرص بعضهم عليها لانها مادة رزق، ولانها مادة تسلط وتحكم في ضمائر الناس.

9:
ربما يتحمل الشهيد مسلم بن عقيل بعض المسؤولية عن نتائج العمل، ربما، ولكن هذا لا يطعن في حنكة الحسين عليه السلام، ولا تصح الرواية التي ينقلها للاسف الشديد الشيخ المفيد في كتابه الارشاد، والتي يتهم بها الحسين عليه السلام مسلمَ بن عقيل بالجبن، هذه الرواية محل نظر بطبيعة الحال، فإن مسلما كان شجاعا معروفا.

10:
اتهام العراقيين بقتل الحسين اسطورة، فهؤلاء الاقوام الذين كانوا يسكنون الكوفة هم عشائر الفتح الذين نزحوا إليها بعد أن فتحوا فارس، هم عشائر حجازية ويمنية، فتسميتهم بالعراقيين مجازا، وليس حقيقة، ولكن هناك ما هو أخطر من ذلك كما سنرى في النقطة التالية.

11:
تُرى ماذا كان لو أن الحسين عليه السلام لم ينزح من الحجاز الى الكوفة؟ ماذا لو لم يتسجب لنداء أهل الكوفة وبقي هناك، المدينة أو الحجاز، لكان واحدا من أبناء الصحابة، لا أكثر ولا أقل، لتوفاه الاجل بشكل عادي، ولكن دخوله الى الكوفة، وما مر عليه بالكوفة، ومجريات عمله بالكوفة هي التي شهرت الإمام الحسين عليه السلام، لولا الكوفة لما كان الحسين هو الحسين الحالي، سلام الله عليه ، مراسلاته مع أهل الكوفة، تفاهمه مع أهل الكوفة على استلام الحكم، تحركه من الحجاز الى الكوفة، القتال الذي جرى بينه وبين صنيعة فارس عبيد الله بن زياد في الكوفة، استشهاده واستشهاد أبنائه واصحابه في الكوفة... هذه الملحمة هي التي خلقت الحسين بما هو الحسين سلام الله عليه، بما هو الحسين صاحب الملحمة، الحسين صاحب المأساة، الحسين الشهيد، الحسين الذي اقترن بالاباء والثورة والرفض... والكوفة أيضا لولا الحسين لما كانت هي الكوفة فيما بعد، العلاقة جدلية بين الكوفة والحسين عليه سلام الله.

12:
يجب أن نعترف أن بعض عيون أهل البيت بشكل مباشر او غير مباشر لم يكونوا عونا للحسين، لماذا نخبيء هذه الحقيقة، محمد بن الحنفية خذل الحسين، كذلك ابناه، كذلك عبد بن جعفر، كذلك عبد الله بن عباس، عملية التبرير فاسدة، لا تخلق تاريخا حقيقيا، يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتقديم الحقيقة مهما كانت مرّة.

13:
أكثر من خطاب يورده أصحاب المنابر للحسين لم يثبت تاريخيا، ليس هنا مجال استعراض هذه الخطب، انتهز فرصة اخرى، وربما بمناسبة اربعين الشهيد، واكتب بذلك بإذن الله تبارك وتعالى.

14:
الحسين ليس ملكا للشيعة، بل هو ملك للمسلمين، والدعوى الى جعل يوم استشهاده هو يوم الشهيد الاسلامي عمل مبارك ومفيد وجامع للامة الاسلامية.

15:
كان خطاب الحسين يتجدد حسب معطيات الظروف، فيما إذا وجد الناصر أو لمح إمكانه يخطب آملا بالانتصار، مشجعا على المضي في سبيل الحق، داعيا الى نصرته، مبشرا بالخير، وفيما تنقلب الاية يتحول مسار الخطاب، من تبشيري إلى حزن، وشكوى من قسوة الزمن، إنه خطاب المؤمن بالواقع، وليس خطاب الأوهام والخرافات والأحلام والرؤى الزائفة.
هذه بعض المقاربات التي احببت أن اوضحها في هذه المقالة العجلى، أملي أن أرفدها بقراءة اوسع، علما أن كاتب هذه السطور يحتفظ بكتاب كامل عن عمل الحسين هذا، سبق أن نشر منه حلقات في ايلاف الشهية، الحبيبة...
والله من وراء القصد