1:
في نص نموذجي للمؤرخ الاسلامي المسعودي ت (346) للهجرة حول جيشي الشام والعراق في معركة صفين يقول: (وسار معاوية من الشام، وقد تنوزِع في مقدار ما كان معه أيضا، فمُكْثِر ومقلل...) 2 ص 334 / وهو نص مثير في تصوري من جهة قوله (فمكْثر ومقلل...) وإن كانت ناقصة، فكان من الاحسن أ ن يبين لنا سبب هذه الظاهرة، أي التكثير والتقليل إذا صح التعبير، ولكن تعتبر هنا إشارة متميزة، فهي على أقل تقدير تبعث بنا الحذر من التصديق الاولي لأي خبر، وإنْ يكون ذلك بالاستفادة غير المباشرة...
الرقم محل دهشة وإعجاب في الترا ث التاريخي العربي الإسلامي، فالرواة يهتمون بالرقم، أعداد القتلى، أعداد الجيوش، أعداد الكتب التي صنفها فلان أو فلان، أعداد الشعراء الوافدين على هذه الخليفة أو ذاك، أعداد الجواري التي يضج بها قصر هارون الرشيد، أعداد الذراري الذين خلفهم الأمراء والقواد والحكام،عدد الكرامات، كرامات أمير المؤمنين علي عليه السلام، كرامات أ بي حنيفة، كرامات عبد القادرالكيلاني، عدد المسائل التي أجاب عنها فقيه في سا عة واحدة، ساعة واحدة فقط، عدد مكرمات الخلفاء على العلماء والشعراء والقواد، عدد القصور التي بناها الحكام والولاة والتجار المعروفون... وهكذا...
هذه الظاهرة واضحة بل طاغية في كتب التاريخ والتراجم في التراث العربي الاسلامي، يزداد الرقم وينقص، ربما الفرق بين الحد الاعلى والحد الأنصى يفوق حاصل تقسيم الحد الاقصى على أثنين!

2:
المنبر الإسلامي هو الاخر مغرم بهذه الظاهرة، ينقلها بحرفيتها ومهنيتها من هذه الكتب، ينقلها تمجيدا أو تزييفا، ينقلها فخرا أو فضحا، حسب الحاجة، وحسب الانتماء، وحسب الظرف، و(مستمعون) يكبِّرون ويهللون عندما يسمعون من الخطيب عن عدد الذين قتلهم الحسين عليه السلام في يوم الطف، فالعدد كبير، نوعي، والبطل واحد هو الحسين عليه السلام، و (مستمعون) يكبِّرون ويهللون عندما يسمعون من خطيب آخر بان عبد القادرالكيلاني رحمه الله له من الكرامات ما فاق الألف مكرمة، كلها مدهشة، ومغرية با لتطلع إلى هذه الشخصية المثيرة، بل بالتأسي بحياة وفكر وسلوك عبد القادر الكيلا ني، و(مستمعون) يلعنون ويشتمون عندما يسمعون من خطيب آخر يتحدث عن الاعداد الهائلة التي جيشها عبيد الله بن زياد لقتل الحسين، فهم 120000 مقاتل، او 80000 محارب... وهكذا نجد أنفسنا في بحر من الارقام أو ضآلة من الارقام، متوزعة بين حب وكره، بين مدح وهجاء، بين قبول ورفض...

3:
ويقرا التلميذ العربي المسلم هذه الارقام في الكتب المدرسية، أو في مؤلفات تربوية! أو في قصائد ملحمية، أو في قصص للتسلية وترقية الذوق الادبي، فما الذي يحصل؟ ويُساق الرقم في جو إحتفالي أحيانا وفي جو جنائزي أحيانا أخرى؟ ما الذي يحصل في خيال هذا التلميذ المسكين؟
لا شك أن الرقم يسحر، خاصة إذا كان ضخما في سياق إنجاز حربي قتالي، أو في سياق إنجاز علمي فكري، أو في سياق إنجاز أخلاقي كأن يكون كرما مثلا... ولكن هل ما يثير الخيال إذا كان يستند إلى خبر تاريخي مشكوك به ينفع ويفيد ويشحذ بالقوة والنشاط؟ وهل مثل هذه الارقام فيما لو كانت ليست صحيحة تؤسس لثقافة تا ريخية سليمة وصحيحة ومفيدة؟
إن تنمية الخيال اعتمادا على ارقام خا طئة تساق وكأنها صحيحة عملية خطيرة بنتائجها النهائية، تنمية الخيال ينبغي أن يعتمد على أسس لها من الو اقعية حظ كبير، إننا بهذه الطريقة نؤسس لتاريخ خا طيئ، وثقافة هوس، وخيال مريض، وإرادة مزيفة...
ما هي النتيجة التي نتوخّاها من الخبر الذي يقول ـ على سبيل المثال ـ إن سعيد بن جبير كان يختم القرآن مرة كل يومين من اسبوعه؟
ما هي النتيجة التي نتوّخاها من الخبر الذي يقول ـ على سبيل المثال ـ إن فلانا كان يصلي في يوم وليلة 1000 ركعة ومن دون ان يكل أو يتعب؟
لا أقصد نتيجة محتمة... بل محتملة...
التأسي مثلا...
أليس هذا محتملا؟
وما هي النتا ئج التي يمكن أن تترتب على هذا الاحتمال، أي فيما لو أتخذ للتأسي والتشبه والتمثل؟

4:
ولكن أريد أن أتناول الموضوع من زاوية ثانية... زاوية علمية بحتة... فكثيرا ما نقرا أن فلانا كتب 1000 رسالة، او مصنف، ونقرأ عن أسماء هذه المصنفات ومجالاتها... فيأخذنا العجب، وتملكنا الدهشة، الف مصنف في الفقه واصوله وفي التفسير، وفي التا ريخ، وفي الحديث، وفي الطب ربما، وفي الفلسفة...
ولكن فيما نواصل القرا ءة سوف نواجه ما يلي....
ألف: إن بعض هذه الكتب مفقودة! وبالتالي، لا نعرف مدى عمقها، بل مدى صحتها، أي صحة وجودها أصلا!
باء: إن بعض هذه الكتب لا تعدو أكثر من عشرين صفحة، كما هو مثلا في كتاب تعريف العقل للكندي الذي كتبه جوابا عن سؤال طرحه عليه الخليفة في وقته!
جيم: إن طريق بعض هذه الكتب إلى الراوي غير سليم، ومن ثم يحوم الشك حول أصل وجودها.
دال: وفيما نقرا بعض هذه الكتب مطبوعة أو مخطوطة سنجدها تكرارا كاملا لما قبله من الكتب! قارن مثلا بين كتاب مقالا ت الا سلاميين للاشعري الشيعي مع كتاب فرق الشيعة للنوبختي!
هاء: بعض هذه الكتب منحولة على أصحا بها، كما هو في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
واو: بعض هذه الكتب عبارة عن سباب وشتائم ولعن، كما هو كتاب (الفرق بين الفِرق) للبغدادي رغم ما يحمله في بعض الاحيان من قراءات نافذة في موضوعة العقائد والفرق.

5:
نقرأ مثلا: إنَّ عليا بن أبي طالب عليه السلام فسر البسملة بحمل بعير! بل في تفسير النقطة القابعة تحت باء (بسم) فأي خيال يمكن أن يشحذه هذا الهذيان في الذات؟ وأي نظرة خيالية إعجازية يربينا عليها مثل هذا الكلام غير المسؤول؟ وأي نزعة ا سطورية يكرس في داخلنا نظير هذه المبالغة الطائشة؟
نقرأ مثلا: إنَّ هارون الرشيد كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فكيف يدير الدولة؟ ومتى ينظر في المظالم؟ وماذا لو كان يجهز جيشا لمقاتلة الروم؟
نقرا مثلا: إن عليا قتل 550 فارسا من فرسان العرب في صفين ليلة الهرير، حيث يروي التاريخ أن عليا كان يكبر كلما قتل فارسا من الطرف المقابل، وقد أحصي له 550 تكبيرة!
كيف أحصيت؟
ومن الذي حصى ذلك؟
ولماذا لا تختلط هذه التكبيرات بغيرها؟
خيال...
ونحن نقتاد على الخيال، نحب الخيال، ليس الخيال العلمي،بل الخيال الأسطوري، وعلي يريد لنا أن نتخيل عن علم لا عن وهم...