قال تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنين عليهّن من جلابيبهنّ، ذلك أدنى أن يُعْرَفن فلا يُؤذين، وكان الله غفورا رحيما) الاحزاب اية 59.

معنى الجلباب: المأساة المُعْجَميِّة
لقد اضطربوا اضطرابا شديدا في تعريف الجلباب، حتى ليحار المرء بأيها يأخذ وأيها يطمئن، وقد أنهاها الحافظ بن حجر في (الفتح) إلى سبع أقوال.
نقرا في مصباح اللغة (... والجلباب ثوب واسع من الخمار ودون الرداء)، فهو ثوب أذن، ولكن يمتاز بكونه أوسع من الخمار، ودون الرداء، ولكن الرداء بحد ذاته له الكثير من الاستعمالات والمعاني! فهو تارة مايلبس فوق الثياب كالجبة والعباءة والثوب كما جاء في المعجم الوسيط 1ص 340، وفي لسان العرب ج 14 ص 316 (والرداء من الملاحف... والرداء الغطاء الكبير)، وتوجد روايات عن طريق السنة تنهي عن الصلاة بالسراويل من دون رداء، فقد جاء في مسند الروياني الجزء الأول ص 27 حديث رقم 26 (حدّثنا ابن حميد حدّثنا أبو تُميلة، عن عبيد الله بن العتكي،عن أبن بريدة، عن أبيه، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في ملا ء ة ليس عليه غيرها، ولا يتوشّح بها وأن يصلي في سراويل ليس عليها رداء)، وقد جاء في النهاية لإبن الأثير الجزء الثاني ص 217 (الرداء هو الثوب أو البرد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه وبين كتفيه فوق ثيابه)، ولكن إذا كان الرداء يغطي الثياب، فما هي مهمة الجلباب؟
يقول في مصباح اللغة (والجلباب ما يُغطّى به من ثوب وغيره)، وبالتالي، يقوم الجلباب بوظيفة، تلك هي التغطية، كأن يكون هذا الذي يغطي ثوبا، فإذا غطى الثياب ما هو يا ترى؟
في لسان العرب (... والجلباب: القميص وثوب أوسع من الخمار دون الرداء تلبسه المرأة رأسها وصدرها، وقيل: هو ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل هو الملحفة، وقيل:هو ما تغطي به المرأة الثياب من فوق كالمحلفة، وقيل: جلباب المرأة ملاءتها التي تشتمل بها... وقيل: الخمار... الإزار قاله ابن الاعرابي، وقال أبو عبيدة قال الأزهري: معنى قول ابن الإعرابي الجلباب الإزار لم يرد به إزار الحقو، ولكنه أراد إزارا يشتمل به، فيجلل جميع الجسد، وكذلك الليل، وهو الثوب السابغ الذي يشتمل به النائم، فيغطي جسده كله... الرداء... وهو كالمقعنة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها) / المصدر 1ص 271 ـ 273 /، وفي تاج العروس (هو في الأصل الملحفة ثم أُستعير لغيرها من الثياب، قاله الخفاجي في العناية) / المصدر 1 ص 186 / ترى ماالذي يستفيده قارئ من كل هذه الفوضى في تعريف الجلباب؟
ليس من الصحيح القول بأن الجلباب والإزار والملحفة والمقنعة والملاءة مترادفات هي أسماء لمسمّى واحد، وإلا لما أحتاج صاحب لسان العرب إلى إسلوب التمريض (وقيل)، فإن هذا التمريض إشارة إلى ضعف القول، ولذا لا يمكن أن نزن كل هذه الأسماء بميزان الترادف المتماهي.
يقول الكشاف (الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله على صدرها، وعن ابن عباس: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقيل الملحفة، وكل ما يُتستّر به من كساء أو غيره).
عندما يستعرض الحافظ بن حجر معاني الجلباب وينهيها إلى سبع، ثم يختار أحدها، ألا يدل ذلك على أن المعجم العربي ليس خالصا، وإن لسان العرب تخالط مع بعضه فلم يعد بالإمكان تحديد المعنى الذي وضع أولا؟ أين نجد النجعة في كل هذا العرض لمعنى الجلباب أو الرداء في القاموس العربي؟ من الواضح أن معنى الجلباب هنا متأثر بالاوضاع الاجتماعية والعرفية والفقهية والثقافية، وإلاّ لماذ هذا الاختلاف الهائل والفوضوي في معنى المادّة؟

جحيم المعنى:
إذا كان الجلباب يغطي الرأس كما قرأنا لدى بعض المعاجم، كذلك لدى بعض المفسرين كما سنأتي عليه، وإذا كان الخمار كما يرى بعض علماء الدين غطاء الرأس، سيكون لباس المرأة المسلمة حينما تخرج من بيتها عبارة عن مدلهمات بعضها يستر بعضا، فإن الصورة الحقيقية لحجاب هذه المرأة سيكون خمار يلف الرأس وثوب يلف الجسد، وجلباب يغطي الخمار ثوب الجسد! فهي عبارة عن طبقات من الأقمشة بعضها يستر بعضا! فالخمار يستر الرأس والثوب يستر الجسد، والجلباب يستر الخمار ويستر الثوب!
يقول الشيخ الألباني (والجلباب: هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال، وهو يُستعمل في الغالب إذا خرجت من دارها) ص 83. ويخلص الباحث إلى أن (المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر، وتلبس الجلباب على الخمار، لأنه... أستر لها، وأبعد عن أن يصف حجم رأسها واكتافها) ص 85. وبذلك تتكشف شبقية هذا التعليل، فإن المرأة كي تبعد عنها الشبهة يجب أن تتحول إلى قطعة سواد حالك، ففي رواية أبو داود الجزء الثاني ص 182 باسناد صحيح وأروده في (الدر) الجزء الخامس ص 221 برواية عبد الرزاق وعبد بن حميد وإبن داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أم سلمة، أنه لما نزلت آية الجلباب هذه (خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من الأكيسة)! ص 83. وفي السطور التالية سوف نفصّل في الموضوع.

مع الآية الكريمة:
الآية الكريمة تأتي مباشرة بعد أية تندد بالذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ظلما (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهنانا وإثما مبينا)، ثم يأتي قوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن جلابيبهن...)، فإن نظرة بسيطة على هذا التتابع يكشف عن أن الإجراء الذي أمر به الله (إدناء الجلابيب) بالنسبة لأزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين إنما مرتبط بنوع من الإيذاء يحصل لهؤلاء على يد الآخرين. فما هو نوع هذا الإذاء الذي يتم تجنبه بإدناء الجلابيب، ويبدو إن الإيذاء الذي يلحق المؤمنات هو ليس من جنس الإيذاء الذي يلحق المؤمنين.
إن الموقف الذي أمر به القرآن ليس رداً على الإيذاء، بل جوهره تجنب الإيذاء، أي إعدام فرصة الإيذاء، عدم إعطاء فرصة للآخر ليؤذي هذه المؤمنة أو تلك.
النقطة الأولى التي يجب تجليتها هنا هي بيان هوية الإيذاء، ترى أي نوع هو، فالقرآن الكريم لم يكشف لنا عن ذلك، هنا نعود لأسباب النزول لعلنا نجد ما يشفي الغليل.
جاء في أسباب النزوللواحدي (أخبرنا سعيد بن محمّد المؤذّن قال: أخبرنا أبو علي الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن الجنيد قال: أخبرنا زياد بن أيوب، قال أخبرنا هشيم عن حصين، عن أبي مالك قال: كانت نساء المؤمنين يخرجن بالليل إلى حاجاتهن، وكان المنافقون يتعرّضون لهن ويؤذهن، فنزلت هذه الآية، وقال السّدي كانت المدينة ضيقة المنازل، وكان النساء إذا كان الليل خرجوا فقضين الحاجة، وكان فسّأق من فساق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا هذه حرّة فتركوها، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا هذه أمة، فكانوا يراودونها، فأنزل الله تعالى هذه الآية) / المصدر ص 208.
وقال الضحاك والسدّي والكلبي عن الآية المّمهدة أي آية رقم (58) نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون ا لمرأة فيدنون منها فيغمزونها، فإن سكتت ا تبعوها، وإن زجرتهم إنتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلاّ الإماء، ولكن لم يكن تعرف الحرّة من الأمة إنما يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأ نزل الله تعالى هذه الآية.ص 208، واستدل على صحة ذلك بالآية محل البحث.
قال في طبقات ابن سعد(أخبرنا محمّد بن عمر، عن أبي سبرة،عن أبي صخر، عن طعب القرضي قال: كان رجال من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن، فإذا قيل له؟ قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين من جلابينهن) 8 ص 176.
وهناك روايات اخرى في ذات المعنى، ولكن جميعها روايات مرسلة، فلا يمكن وهذه الحال الاحتجاج بها في ما نحن فيه.
ولكن من التبصر بلسانيات الآية الكريمة، يتضح لنا إن الإيذاء كان ذا صبغة إخلاقية، يتصل بجسد المرأة المؤمنة، لذلك كانت آلية تجنب الأ ذى (الجلباب) فإن الجلباب يغطي البدن كله، بل يغطي حتى الثوب. إن الجلباب لا يرد ضربا أو نغزا أو قرصة أو طعنا، بل يحمي جلدا من الاختراق البصري، فهو يستر الجسد، ولكن أليس هناك الثياب؟ ألا تكفي في هذا المقام؟ سنأتي على التفصيل بإذن الله.
لقد كان الجلباب ردا على الأذى، ولكن الجلباب لا يرد ضربة بضربة، ولا يقي من تحرش يدوي مباشر، ولا يقي من طعنة رمح، ولا من ضربة سيف، وإنما يمارس هنا عملية تجنيب، تجنيب من أذى يبدو أن صفته الجوهرية إنه لا أخلاقي.
نستفيد من جو الآية الكريمة إن نساء المؤمنات بواسطة الجلباب سوف (يُعرَفن فلا يؤذين) كما نفهم قوله (ذلك أدنى أن يُعرَفن فلا يُؤذَين)، وعليه، كن لم يُعرَفن، فأمرهن بالجلباب كي يعرفن فلا يؤذين، فالجلباب سبب معرفة تحجب الأذى.
فالأذى لم يكن طعنا برمح، ولا ضربة بسيف، ولا لكمة، ولا مباشرة غير إخلاقية بيد للجسد الأثنوي المؤمن، فكيف إذن كان الأذى؟
نستعرض هنا بعض الصور التي يطرحها علينا المفسرون.
الصورة الأولى: ما يتناقله علماء أسباب النزول في الآية المذكورة، فقد ورد في أسباب النزول للواحدي النيسابوري في هذه الآية ما يلي:
(أخبرنا سعيد بن محمّد المؤذِّن... عن أبي مالك قال: كانت نساء المؤمنين يخرجن بالليل إلى حاجاتهن وكان المنافقون يتعرّضون لهن ويؤذوهن، فنزلت هذه الآية...) / المصدر 208.
(وقال السدّي: كانت المدينة ضيقة المنازل، وكان النساء إذا كان الليل خرجوا فقضين الحاجة، وكان فسّاق من فسّاق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا هذه حرّة فتركوها، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا أمة، فكانوا يراودونها، فأنزل الله هذه الآية.
فحسب هذه الرواية إن نساء المؤمنين كن يخرجن لقضاء الحاجة في الليل فيستغل بعض الفساق ذلك للتحرش أو الإطلاع على جسدهن، او ما يخرج منهن أثناء قضاء الحاجة، كأن يتعرضون لهن بفاحش القول، أو لمسة يد، أو دعوة غزلية ماجنة، أو مزاح أو ما شابه ذلك. وكان هؤلاء المتحرشون يظنون أو يدعون الظن بأن أحدهن أمة، فمن أجل إعدام هذه الفرصة على هؤلاء الفساق أمر الله نساء المؤمنين أن يتجلببن! لانها في هذه الحال تصبح متميزة عن الأمة، باعتبار الأمة لا تضع قناعا ولا جلبابا ولا خمارا.
هذا الفسير مدعم باسباب النزول الواردة في الأسفار الروائية، وقد مرّ بنا منها روايتان، ومن أجل مزيد من الفائدة نورد روايات أخرى...
في طبقات ابن سعد (أخبرنا محمّد بن عمر عن ابن أبي سبرة، عن أبي صخر،عن إبن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين، فإذا قيل له... قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيهن) 8 ص 176.
في تفسير القمي المنسوب للإمام الصادق (...كان سبب نزولها أن النساء كنّ يجئن إلى المسجد ويصليّن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كان باللّيل وخرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقصد الشبّان لهنّ في طريقهن فيؤذنهن ويتعرضون لهنّ فأنزل الله ياأيها النبي...) / المصدر 2 ص 196.
وينتصر لهذا الرأي بعض الشواهد المهمة، ومن أهمها الروايات والاخبار التي تبين أن الجلباب من حق الحرة فقط، فقد أخرج رواة ثقاة أ ن عمر بن الخطّاب قد دخلت عليه أمة كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الأنصار، وعليها (جلباب متقنعة به)، فسألها: عُتِقْتِ؟ قالت: لا. قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه عن رأسك، إنّما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين، فتلكأت، فقام إليها بالدرّة فضرب رأسها حتى ألقته عن رأسها، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه الجزء الثاني ص 231، وقد جوّده الألباني في كتابه (جلباب المرأة المسلمة) ص 99. وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في المصنف أيضا الجزء الثالث ص 136، من طريق قتادة بن أنس قال (رأي عمر أمة لنا مقنعة، فضربها، وقال: لا تَشبّهي بالحرائر)، وقد قال الحافظ بن حجر إسناده صحيح، واكد الألباني إنه على شرط الشيخين ص 99. وفي الأثار الشيعية إن الأمام علي كان يضرب الأمة التي تستعمل الجلباب.
فحاصل هذه الرأي، أن الجلباب جاء لضرورة وقتية، هذه الضرورة الوقتية ليس لتمييز الحرّة عن الأمة من حيث المبدأ، بل جاء الأمر بتجلبب نساء المؤمنين كي يتميزن عن الإماء، ثم ليكون ذلك مانعا عن التحرش بهن.

الصورة الثانية
وهي في الحقيقة تقترب من الصورة الأولى الى حد كبير من حيث الجوهر، ومفادها أن نساء المؤمنات كن يخرجن لقضاء الحاجة في الليل، فكان بعض فسّاق المدينة يتتبعون أثرهن للنظر إليهن بهذه الحالة أو للتلصص على بعض أحزاء الجسد التي تنكشف أثناء العملية، خاصة وهي طالما تكون في الطرقات الخالية، وكان هؤلاء المتشوفون يتعللون بأنهم يظنون أنهن أماء أو قنيات. فأمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يتجلببن كي يقطع الطريق على هؤلاء المتلصصين، بإعتبار أن الأمة ليس من حقها الجلباب ليس في أحكام الإسلام، بل في عادات العرب قبل الإسلام أيضا، كما تنقل بعض الشواهد التاريخية. ومن هنا عرّف الطبرسي الجلباب بقوله (الجلباب خمار المرأة يُغطى به رأسها ووجهها إذا خرجت لقضاء حاجة) / المصدر 8 ص 578. ويبدو إن الجلباب هنا يمارس تغطية الرأس وما يمكن أن يخرج من البدن أثناء إداء عملية الخلوة، فمن المعلوم أن الثوب وحده لا يستر كل شي في مثل هذه الحالات، والى الان يستر الكثير من أبناء الريف مؤخراتهم بفرش العباءة فرشا من على رأسه إلى ما بعد خلفه لمسافة معتبرة عندما يتبرّز، بحيث تخفي العباءة الجزء الذي يخرج اضطرارا من بدن الانسان أثناء التغوط، أي الجزء الخلفي من الإنسان، فيما يعطي وجهه وجهة خالية من البشر، وهو، أي ابن الريف والبادية خبير بذلك.
وفي الحقيقة ما زال أبناء البادية يتخمرون بالقماش والعباءة لما يذهبون إلى بيت الخلاء، سواء كانوا من الرجال أو النساء، فهم يتحوطون من الابخرة المصاعدة من الغائط والبول بشد الرأس ولثم الانف والفم بعصابة من قماش وأحينا بالعباءة.
نقرأ في أسباب النزول للتوحيدي (... الزناة... كانوا يمشون في طرق المدينة، يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم أنتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون الاّ الإماء، ولكن لم يكن يومئذ تُعرف الحرة من الأمة إنما يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية) ص 208. ثم يستدل على ذلك بالآية رقم 59 من سورة الاحزاب، وأسباب نزولها كما مر بنا سابقا.
فالغاية القريبة من الامر هو التمييز بين الحرة والأمة، والغاية البعيدة هي تجنب الاذى الذي كان يتعرض له الحرائر!!! فلو أن الإماء لم يتعرضن أصلا لمثل هذه المضايقات، أو لو كن بمنزلة الحرائر في الحقوق والواجبات، لما كان كل ذلك!

الصورة الثالثة:
وهي لا تختلف في سياقها العام عن الصورتين السابقتين، ففي الطبرسي وهو يفسر هذه الآية الكريمة إن (أهل الريبة... كانوا يمازحون الإماء وربما كان يتجاوز المنافقون إلى ممازحة الحرائر، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: حسبناهنّ إماء، فقطع الله عذرهم...) ص 580.
فالله أمرهن بالتجلبب كي ينقطع عذر هؤلاء الممازحين، الذين تجاوزوا الحدود، وتخطو القيود، من ممازحة الإماء إلى ممازحة الحرائر!، فالعلة هي حماية جسد ا لحرّة الإساءة أو التعرض أو الإرباك أو الإحراج! فلم يكن ا لجلباب مطلوب بحد ذاته، بل يدور مدار مصلحة مشخصة، وحسب هذا المنطق يسقط كواجب فيما سقطت تلك المصلحة أو غابت.
(رد) وصورة رابعة
لا يستسيغ بعض المفسرين المحدثين وبعض دعاة الدين هذا التفسر للآية الكريمة، ويعدون ذلك نوعا من الجهل في فهم و استيعاب النص الحكيم، بل هو مدعاة للفاحشة والتخريب والتفسيد، خاصة وإن مآله الاخير إبطال الجلباب في وقتنا هذا، فلم يعد هناك الإنسان والنساء بطبيعة الحال من ضمن ذلك يتبرّز في البراري، أو في الامكنة المكشوفة، فليس هناك فرصة تلصص على نساء المؤمنات وغيرهن وهن يقضين حاجتهن، كما لم يعد هناك إماء وحرائر كي يؤدي الجلباب دور التمييز والفرز، وعليه لا داعي لهذا الجلباب. كما لم يقبل هؤلاء بأن الجلباب والخمار حكرا على الحرائر، بل هو واجب على كل إمرأة بلغت سن التكليف، سواء كانت حرّة أو أمة.
يقول الألباني (ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد، الذي هو إمّا زلّة عالم، أو وهلة فاضل عاقل، أو إفتراء كاذب فاسق...) 93، وكان قبله أبن حزم الظاهري الاندلسي قد شنّع على هذا التفسير، وأنكر أن يكون الجبلباب والخمار منحصرين بالحرئر، معللا ذلك بأن دين الله واحد، لا يفرق بين طبيعة وأخرى.
ويشكك هؤلاء بروايات أسباب النزول التي ذكرتها قبل قليل، ويدعون أنها مراسيل،كما أنها تنتهي إلى إبي مالك وأبي صالح الكلبي ومعاوية بن قرّة و الحسن البصري.

رصيد المواقف والأراء
ليس تكلفا إذا قلنا أن الرأ ي الذي يقول أن الجلباب جاء لتمييز الحرّة عن الأمة يستحوذ على رصيد قوي من المعززات والمؤيدات، منها بطبيعة الحال أخبار أسباب النزول، فيما يفتقر الرأي الذي يقول أن آية الجلباب جاءت لصون جسد المرأة من نظرات المستهترين، وإن الجلباب يشكل مانعا لدى الفساق من التحرش بالمرأة المؤمنة، لانهم يحترمون هيبتها، ويخشون قدسيتها، ولأنها بالجلباب تعطي إشارة إلى أنها لا تعرض نفسها للطلب. ويقولون: إن المرأة التي لا تتجلبب إنما يظن بها الآخرون الظنون، فيما المرأة المتجلببة لا ينصرف إليها ظن الآخرين المريب.
وفي تصوري إن مثل هذه التعليلات ذوقية صرفة، ومن الذي يضمن سريانها في كل العصور والدهور خاصة إذا لا حظنا ما يلي: ــ
1: إن الجلباب في تصور هؤلاء يغطي (الخمار) و (الثياب) أيضا، ولم تكن الأمة تختمر، فإي حاجة فيما بعد إلى الجلباب هذا كي تستر جسدها من العيون، وكي تلغي إحتمال الظن بها، أي الظن بأنها تعرض نفسها للهوى أو البيع أو التحرش ما شابه ذلك؟
2: رصيد الأخبار، فهي وإن كانت مرسلة، ولكن بعضها كان عن إبن عباس كما سيأتي، ثم هي ليست روايات نبوية كي نقلل من قيمة إرسالها، بل أخبار عن حالة إجتماعية، وفرق بين الأمرين.
3: لقد ذهب جمهور غفير من المفسرين إلى أن الجلباب يؤدي وظيفة التمييز، وللمثال أذكر الشواهد التالية.
المفسر أبن عباس كما في تفسير الطبري، والطبري نفسه المتوفي سنة 310 في كتابه التفسيري الكبير، والمفسر أبو بكر أحمد بن علي الرازي في (أحكام القرآن)، والمفسر عماد الدين الطبري، والمفسّر البغوي المتوفي سنة (516) في تفسيره،والمفسر الزمخشري المتوفي سنة (538) في تفسيره (الكشاف)، والمفسّر ابن عربي الملكي المتوفي سنة (543)، و المفسر ابن عطية الاندلسي ا لمتوفي سنة (546)، والمفسّر ابن الجوزي المتوفي سنة (596) في (زاد المسير) والمفسّر الفخر الرازي المتوفي سنة 606 (التفسير الكبير)، والمفسر الإمام عز الدين بن سلام المتوفي 660، والمفسّر القرطبي المتوفي سنة (671) في (الجامع لأحكام القرآن)، والمفسّر البيضاوي المتوفي سنة 691، والمفسّر أبو البركات النسفي ا لمتوفي سنة 710 (تفسير النسفي)، والمفسر الخازن المتوفي سنة 741 (تفسير الخازن)، والمفسّر محمد الغرنانطي (التسهيل لعلوم التنزيل، والمفسّرأبوحيان الاندلسي المتوفي سنة 745 (البحر المحيط) والمفسر الطبرسي، والطوسي، وفي تفسير القمي الشيعي، وغيرهم كثيرون!
ففي ضوء هذه الحقائق أو المقتربات يكون من الصعب نفي الرأي الذي يقول أن الجلباب فرض للتمييز بين الحرة والأمة، من أجل أن لا تتعرض الحرة إلى إنتهاك الفسّاق الذين كانوا يتحرشون بالإ ماء.
ليس من شك إن القرآن في بعض مواقفه وأحكامه متأثر بالبيئة التي نزل فيها، وقد إنطبعت بعض أحكامه بهذه البيئة، وليس ذلك ما يخالف كونه كتابا منزلا، فما المانع أن تكون بعض معالجاته وقتية؟ أي لعلاج حالة خاصة؟
ليس في ذلك ظلم للأَمة، أبدا، بل هي مراعاة لوضع قاهر لا يستيطع القرآن تغييره، أو إبداله، إنه جري على مقتضيات الظروف، تماما، كما هو إقراره بيع وشراء العبيد ليس إلاّ.
4: وبالنسبة للذين يقولون إن الجلباب نزل ليأمر بتغطية الوجه فضلا عن الخمار والثياب يثور سؤال عملي مهم، ذلك أن الإسلاميين يفتخرون بأن المرأة في صدر الإسلام كانت تشارك في الحروب، ويعملن على تضميد الجرحى، وغير ذلك، فهل يعقل ذلك مع جلباب يغطي الخمار والوجه؟ بحيث كما يرى بعضهم أنه لا يجوز سوى أخراج عين و احدة؟

مع الآية الكريمة / لسانيات
الأولى: النساء والإماء

حرص القرآن الكريم على تصنيف (الإماء) تحت عنوان خاص بهن ولم يدرجهن تحت مفردة (النساء) أو (ا لأزواج)وقد أشار إلى ذلك ضمنا الكثير من المفسرين أثناء تفسيرهم الآيات التي تضمنت بعض احكام النساء وبعض الاحوال الاجتماعية.
قال تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء... فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) / النساء 4 /. ففي هذه الآية هناك مقابلة طرفها النساء من جهة والإماء من جهة مقابلة، فالنساء هن الحرائر.
قال تعالى (والمحصنّأت من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم...) النساء 24 حيث نلتقي مرة أخرى بهذه المقابلة، أي (من لم يكن منكم على سعة ان يتزوج من المؤمنات الحرائر فعليه أن يتزوج من الإماء اللاتي يملكهن المؤمنون) / صفوة التفاسير 1 ص 270 /.
قال تعالى (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن... إلاّ لبعولتهن أو أبائهن... أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن...) النور 31، حيث نلتقي مرة أخرى بهذه المقابلة.
فقوله (نساء المؤمنين) لا يشمل الحرائر والإماء بل الحرائر فقط، وهذا ما عليه أكثر الفقهاء وا لمفسرين وأهل العلم في القرآن الكريم.

الثانية: قوله (ذلك أدنى أن يُعرَفن فلا يؤذين)
قال الطبرسي [ (ذلك أدنى أن...) أي أقرب إلى أن يُعرَفن بزيِّهن أنّهن حرائر ولسن بإماء فلا يؤذيهن أهل الريبة... ] ص 580. وهذا الفهم لقوله أدنى يعطي دلالة إمكان وليس ضرورة، أي ليس بالضرورة لو أن نساء المؤمنين تجلببن سوف يُعرَفن بأنهن حرائر فلا يتحرش بها فساق المدينة، أو يتعرض لهن هؤلاء الشباب. ففي بعض كتب التفسير (أي ذلك التستر أقرب بأن يُعرَفن بالعفة والتستر والصيانة، فلا يطمع فيهن أهل السوء والفساد، وقيل: أقرب بأن يُعرَفن أنهن حرائر، ويتميزن عن الإماء) / صفوة التفاسير 2 ص 537 /. فالإجراء اذن ليس قادرا على كل حال أن يؤدي تلك الوظيفة التي رُسِمَت له أو توخّيت منه، فربما يتخلف عن ذلك، أي مع كل هذا الجلباب قد يتعرضن نساء المؤمنين للتحرش الجنسي، وهو ما يحصل بالفعل.

الثالثة: طبيعة الدلالة
هناك اختلاف في مساحة التغطية التي يجب أن يتولاّها الجلباب، فهاك من يرى أن الواجب يقتضي تغطية كل الجسم، أي يتدنى الجلباب من الرأس ليتدلى بعد ذلك على كل الجسم، بما في ذلك الوجه بكل أعضائه، بل الوجه هو محل التوكيد والجزم عند بعض الفقهاء والمفسّرين، فيما يرفض دلالة آية الجلباب على وجوب تغطية الوجه، ومن هؤلاء الشيخ محمّد مهدي شمس الدين من الشيعة والشيخ الألباني من السنة، ويرى آخرون أن الجلباب يغطي كل البدن بما في ذلك الوجه ولكن يستثني العين اليمنى أ و العين اليسرى. وبالتالي، فإن دلالة الآية ليست قطعية، وممّا يزيد الطين بلّة هنا أن الكتاب الكريم لم يفصّل في هذا الجلباب، أي على مستوى طوله وممارسته، الأمر الذي تسبب في هذا اللغط في الدلالة.