quot;اخوان سنة وشيعية، هذا الوطن ما نبيعهquot; كانت هذه باكورة الشعارات العراقية التي رفعت في اول تظاهرة انطلقت تنديدا بغزو العراق. وتطور فيما بعد ليصبح quot;اكراد سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبعيهquot;.
هذا الشعار quot;الوحدويquot; ما قيل لو كان المجتمع موحدا بالفعل. بمعنى ان المخاوف من الانقسام الشعبي كانت موجودة قبل العمل بمنهج المحاصصة في مجلس الحكم، وقبل اعلان تنظيم القاعدة عن اولى عملياته في العراق، وقبل تشكيل أي مليشيا مسلحة معلنة، وان هذه التطورات اللاحقة عمقته وليست هي المسؤولة لوحدها عنه.
ما حصل بعد عام 2003 كان اصعب اختبار تعرضت له البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية العراقية، الا ان هذا لا ينفي وجود احداث مهمة رسمت علامات استفهام حول وحدة المجتمع، خصوصا في تاريخ العراق الجمهوري. واثبتت تلك الاحداث ان الانقسام العراقي كان يطفو على السطح باشكال وتعبيرات وصور سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة ثم يختفي او يقمع.
وثمة نقطة اساسية لابد من الاشارة اليها، ان شكل الانقسام الموجود قبل سقوط النظام السابق لم يأخذ شكل صراع بين الطوائف، الا في فترة صغيرة بعد انقلاب الثامن من شباط. وبتعبير اخر ان الموقف الطائفي والقومي اقتصر على المواجهة مع السلطة، فانعكاس الانقسام لم يكن اجتماعيا، بل كان بين جزء من المجتمع والنظام السياسي..
غير ان السلوكيات الطائفية للنظام السياسي منذ انقلاب شباط 1963 وبروز ظاهرة الاحزاب الدينية، وهي احزاب طائفية بالضرورة، القى بضلاله على الوضع العراقي واخرج النزاعات الدفينة تدريجيا من كيس التاريخ الاسلامي لتصل ذروتها بعد تفجيرات سامراء عام 2006. كما ان النمط القومي للاحزاب العربية والكردية اعطى دافعا اضافيا للصراع الكردي العربي.
ولعبت التحولات الاقليمية دورا كبيرا في تعزيز روح الطائفية داخل العراق، وفي بلدان عربية مشابهة اخرى. فالصراع بين الطوائف كان يمكن ان يصبح اقل دموية لولا وجود الحركة السلفية التي تعاني من حساسية مفرطة تجاه الاخر المذهبي، وكان لنجاح الثورة في ايران وتحولها من ثورة امة الى ثورة دين دور بارز في رفع منسوب الفعل الطائفي وردة الفعل.
ومجريات الحدث العربي بعد الثورات وشعاراتها quot;الوحدويةquot; والفعل الاقليمي امور تشير الى ان ما جرى في العراق قد يحصل بشكل واخر في اكثر من بلد عربي ومسلم، فالمشهد يتجه نحو ان يكون quot;عراقياquot; في عموم المنطقة التي لا يوجد فيها بلد دون هويات قومية او طائفية او اثنيات من نوع اخرى.
هذه التعددية المجتمعية بقيت مهملة دون معالجات، وخضعت لسياسات تعسفية قامت بها جماعة ضد اخرى او نظام حكم ضد تكوينات من شعبه. والسلوكيات الطائفية والقومية للانظمة وتهميش الاقليات او الاكثريات تفرز بالضرورة ردات فعل عكسية ذات تداعيات خطيرة. واحد اسباب الاحتجاج العربي اليوم عائد الى تلك السلوكيات التي لم تعالج مشكلة بل ضاعفتها.
لقد عكفت بلدان العالم المتقدم عقودا او قرونا على دراسة تعددياتها والبحث في الخيارات المتاحة لبناء مجتمع متفاهم، وما زالت تفعل ذلك، ونجحت في التوصل الى تحقيق نمط من التعايش ساعدت عليه علمانية الدولة الغربية غير الشمولية. في حين ان اغلب بلدان المنطقة لم تستطع حتى الان ان تعترف بوجود انقسامات داخلية، وفي الوقت نفسه لم تنجح الانظمة ببناء علمانية قادرة على احتضان كل تكونياتها بعيدا عن أي نوع من التمييز، ما جعل الفرصة ساحنة لاحزاب الهويات الداخلية بأخذ مكان مهم وسط تلك الهويات.
فالنظام الرسمي العربي والايراني وفي بعض الاحيان التركي لم يقتنع بأن شعار quot;اخوانquot; ما عاد يجدي نفعا رغم كل ما يجري، والاحتجاجات لم تدفع هذا النظام الى الاقرار بوجود انقسام حقيقي اخفق القمع الطويل بانهائه. ومثقف السلطة، ما زال يعيش وهم ان سلطته هي الراعية للوحدة دون ان يدرك انها ترعى ذلك بسلب حقوق تكوينات الشعب والقفز عليها وقمعها. ويرى quot;المثقف الثوري الجديدquot; بتفائل غبي، ان النظام السياسي هو السبب الذي يقف وراء كل الانهيارات وبزوال هذا النظام يزول الانقسام، متناسيا ان بعض اسباب الثورات ذو طابع قومي او طائفي او قبلي. فالانقسام امر واقع أيا كانت اسبابه.
ربما يكون الخطر محدقا بالشرق الاوسط كله، وربما ندخل دوامة لا مفر منها، لكن هناك حقيقة واحدة، هي ان خمسين عاما او اكثر من قمع الهويات الخاصة داخل الوطن الواحد انتجت مزيدا من الانقسام، اي ان ما حصل كان سلوكا اساء للنسيج الاجتماعي ولم ينفعه. وكل لحظة قمع تعيشها هذه المجتمعات ستنتج عنها مستقبلا لحظة فوضى، وفي الحالتين يخسر النسيج الاجتماعي وجوده وما تبقى له من وحدته.
فهل سيدرك من يتحكم بمصير المنطقة ومسارها، ان الوحدة مع القمع اكثر اساءة للاوطان من الانقسام نفسه، وان قوة السلاح ينتج امنا هشا؟ هو سؤال موجه ليس فقط للانظمة السياسية بل الى كل من يعتقد ان له دورا في هذه الارض.
ولا يكفي ان ترفع الشعارات لإثبات النوايا الحسنة، فكثير ممن رفع شعار quot;اكراد سنة وشيعةquot; تورطوا في العنف الطائفي داخل العراق.. ما تحتاج اليه هذه الاوطان مصارحة ومكاشفة.
- آخر تحديث :
التعليقات