لم تكن اي من الاحزاب والتنظيمات الاسلامية في العراق تتقبل فكرة الديمقراطية حين كانت معارضة لنظام الحكم انذاك.. بل انها لم تتقبل الديمقراطية كمصطلح بديل عن مصطلحات الشورى او ولاية الفقيه او الدولة الدينية او الخلافة.... الا بعد ان اقتنعت بان من سيطيح ببعث العراق يريد نظاما ديمقراطيا وانه لن يقبل بأن ينفرد طرف او تيار بحكم العراق.
الحركات السياسية غير الدينية ايضا لم تكن جزء من الخيار الديمقراطي في العراق، هي الاخرى وليدة خلفيات غير ديمقراطية متعددة مع استثناءات بسيطة لاطراف او شخصيات غير مؤثرة ذات خلفية قادمة من ديمقراطية العصر الملكي او من ليبرالية قمعت في العراق عقودا طويلة.
لهذا فان دخول التنظيمات السياسية العراقية اللعبة الديمقراطية التي وضعت الادارة الامريكية لبناتها الاولى، لم يكن سوى دخول احزاب غير ديمقراطية في عملية سياسية يراد لها ان تكون ديمقراطية.. الفرضية كانت تقول ان هذه الاحزاب ستتأقلم مع الرؤية الجديدة، وستنطبع بتصورات ديمقراطية قادرة على التعامل مع المرحلة اللاحقة لنقل السيادة والباحثة عن عملية سياسية تنتج نظاما ديمقراطيا.
وهذا ما لم يحصل حتى الان، لان quot;الديمقراطية العراقيةquot; المفترضة لم تُنقل حتى الان من صندوق اقتراع ينتج كتلا فائزة الى صندوق اقتراع يأتي بصيغة تتوفر فيها شروط الديمقراطية وينتج احزابا قادرة على بناء نظام مدني متكامل.
فلا يكفي ان ترفع شعارات الديمقراطية ولا ان يقال ان الفائزين جاؤوا عبر صناديق الاقتراع، كي يوصف النظام بالديمقراطي. لان هذه الشعارات تبدو وكأنها مفرغة من اي محتوى اذا لم تتحول الى ممارسة حقيقية على الارض تتوافق عندها الاطراف الرئيسة في عملية بناء الدولة وهي الاحزاب والمجتمع بطبقاته وشرائحه ونخبه. وتفريغ مقولات الديمقراطية واستخداماتها في الادبيات السياسية العراقية اصبح عنوانا بارزا للعمل السياسي. وبذلك فان هذه الطبقة تكرر نفس الاسلوب القديم المروج لشعارات مثل الوحدة والحرية والاشتراكية.. وهي شعارات لم تكن صادقة وكان الهدف الاساس من ورائها هو التسويق السياسي.
فالحرية التي طالما استخدمها البعث ضمن ايقوناته الثلاث كانت حرية مفسرة وفق تصوراته الموغلة بثقافة قمع الهويات والتعددية والحريات الفردية والاجتماعية. انها حرية بعثية بامتياز، وما يحصل اليوم في العراق هو اعادة تكريس لاستخدام المصطلح بعد افراغه من محتواه ووضع محتوى جديد له.
ببساطة ان الديمقراطية التي عمل بها سياسيو ما بعد صدام نزعت عنها تكويناتها الاساسية، واستخدمت بطرق تتناسب مع الحاكمين العراقيين الجدد. واحدى هذه الطرق هي الترويج والتأسيس لفكرة تقول انها مجرد صندوق اقتراع يأتي كل اربع سنوات ليفرز فائزين محددين، وبعد ذلك يبقى الامر متروكا لهؤلاء الفائزين في كيفية التعامل مع بعضهم ضمن شروط توضع بحسب الحاجة واستحقاقات يتم تفسيرها وفق اجندة المتصارعين.
وتتعمد الكثير من القوى السياسية على الابقاء على الديمقراطية كفكرة سطحية لا تجد لها قوانين مساعدة ولا عملية تثقيف مؤثرة تؤسس لثقافة اجتماعية ديمقراطية.. بل ان هذه الاحزاب استخدمت عناصر متعددة تضر بتطبيق الديمقراطية وتعاكسها.
فعندما يتم الجوء لفكرة الشراكة بصيغة المحاصصة فان الديمقراطية لن يكون لها معنى سوى انها تفرز رابحين سيحكمون معا بدون وجود معارضة ورقابة حقيقية واذا ما حصلت رقابة ما فانها ستبقى محدودة لأن الجميع يدرك خطورة رفع الحواجز وإزاحة الحدود على المصالح الفئوية في بلد اصبح الجميع فيه متهما. وعندما تستخدم الاحزاب المساجد والمحافل الدينية لاغراض انتخابية فانها بذلك ادخلت التخويف والترغيب غير الدنيوي في العملية الديمقراطية. وعندما تحافظ القوى السياسية الدينية وغير الدينية على ولاءات قواعدها الشعبية المنقسمة بين العرب وايران فان هذا الولاء سيكون على حساب الولاء الداخلي، وسيكون خاضعا لما تمليه الارادات الخارجية وهي ارادات في الغالب لا ترغب بوجود اي ديمقراطية ناشئة في المنطقة. وعندما تهيمن الطبقة السياسية على الدين والاقتصاد والثقافة اضافة الى السياسة فانها بذلك تحول دون الفرز بين الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين.. كشرط لبناء دولة حديثة.
ومن ثم كيف يمكن لقوى واحزاب وحركات ايدلوجية او تابعة لزعيم اوحد او عاجزة عن افراز نخبة سياسية حديثة ان تكون ديمقراطية. وكيف يمكن بناء ديمقراطية بيد طبقة سياسية ليس لديها تصور واف عن حقوق الانسان. وكيف يمكن الوثوق بقيمة دستور خاضع لتفسيرات وتأويلات تحددها المصالح او تخضع لمعايير الصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في حين ان الديمقراطية تفترض ان الدستور يكون هو الحاكم على تلك المعايير. هذا فضلا عن ان الديمقراطية بحاجة الى حاضنة اجتماعية متطورة ثقافيا وتعليميا وتربويا واعلاميا تساهم في تنضيجها وتعميقها، وما تزال مؤسسات السلطة عاجزة على ايجاد مؤسسات تدعم هذه التطور الاجتماعي وتنميه.
وما قاله رئيس القائمة العراقية اياد علاوي انه لا توجد ديمقراطية في العراق كلام دقيق، ولكن اين هي الخطوات الحقيقية التي قام بها للدفاع عن الديمقراطية، وليس عن المكاسب الشخصية.. اعتقد ان الطبقة المشاركة في العملية السياسية بكاملها مسؤولة، مع اختلاف في الدرجات، عن حرف المسار بعيدا عن الديمقراطية كبديل عن كل اشكال الحكم الاخرى.
بالفعل ان الدكتاتورية اسقطت في عام 2003 وان العراق حتى الان يحكم ببديل غير دكتاتوري، ولكنه ليس ديمقراطيا. والانتقال للديمقراطية غير المشوهة يجب ان لا يوكل الى الاحزاب، بل لابد من وجود قوى اجتماعية ومدنية يمكن ان تسهم في هذا الاطار.. والتظاهرات المدنية، وليس الطائفية ولا الدينية، هي عامل مهم في هذا التحول.
- آخر تحديث :
التعليقات