لم تكن الاستقالات المتتالية التي أعلن عنها لأبرز القادة العسكريين في تركيا اعتيادية أو روتينية في سياق تغييرات دورية يقوم بها الجيش التركي لتجديد دمائه، فالزلزال الذي نجحت في امتصاصه رداته الانفعالية، حتى الآن، حكومة رجب طيب أردوغان، يبشر بنهاية حقبة كان الجيش فيها يلعب دور الآمر الناهي في الحياة السياسية.
أربعة من أكبر قادة الجيش (رئيس هيئة أركان القوات المسلحة وقادة القوات البرية والبحرية والجوية) قدموا استقالاتهم احتجاجاً على رفض حكومة أردوغان إطلاق سراح الجنرالات والضباط المعتقلين على خلفية تحقيقات في اتهامهم بالتخطيط للإطاحة بالحكومة، ورفضها ترقيتهم بحسب مسارهم الوظيفي المعتاد.
الاستقالات الجماعية quot;النوعيةquot; في حجمها وتوقيتها جاءت بعد احتجاج الجيش على اعتقال مئات من الضباط العام الماضي لاتهامات بالتورط فيما أطلق عليه اسم عملية المطرقة، وهي مؤامرة تؤكد الحكومة التركية أن الجيش خطط لها عام 2003 لقلب نظام الحكم، وهو ما كشفت عنه التحقيقات مع أكثر من 250 شخصية عسكرية معتقلة حالياً. ثم كانت قضية خلية quot;باليوزquot;، التي كانت تخطط لتفجير مساجد وأماكن عبادة وغيرها لنشر العنف في البلاد وإعطاء الجيش مبرراً للتدخل.
صحيفة صباح التركية عنونت للخبر باعتباره quot;زلزالاً ذا 4 نجومquot;، مشيرة إلى أن هذه الاستقالات تأتي عشية انطلاق الاجتماعات السنوية التي تعقد في شهر آب من كل عام للمجلس العسكري الأعلى برئاسة أردوغان، لإقرار الترقيات العسكرية. بينما أشارت صحف أخرى إلى مضي أردوغان في تحدي المعسكر العلماني أكثر بعد أن نجح فى صياغة أجهزة الأمن وأجنحة من القضاء ومجلس التعليم العالي.
أما صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; فقد وصفت الاستقالات بأنها لحظة استثنائية فى تاريخ البلاد الحديث، وقالت إنه قبل خمسين عاماً، عندما اشتبك رئيس حكومة ذو شعبية جارفة (عدنان مندريس) مع الجيش التركي، انتهى به الأمر لحبل المشنقة، بينما ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن تركيا استيقظت على عهد جديد، فقرار استقالة الرموز العسكرية الأربعة أذهل الكثير من الأتراك الذين لطالما اعتادوا أن تكون مؤسستهم العسكرية فى موقع الآمر الناهي فى البلاد، لكنهم الآن أصبحوا يدركون تراجع قوة المؤسسة العسكرية لصالح الحكومة المدنية التى يديرها أردوغان بحنكة.
الخطوات التكتيكية اللاحقة من تعيين قائد قوات الدرك الجنرال نجدت أوزيل في منصب قائد القوات البرية وقائماً بأعمال رئيس الأركان واحتمال توليه منصب رئاسة الأركان بعد توليه منصب قيادة القوات البرية، حيث تقضي التقاليد العسكرية المتعارف عليه بأن يكون أعلى منصب في الجيش من نصيب قائد القوات البرية، تم تفسيره على أنه بداية اختراق حزب العدالة والتنمية الحاكم لمؤسسة الجيش رسمياً.
أوساط سياسية في quot;إسرائيلquot;، الحليف القديم لتركيا وعسكرها، لم تخف قلقها من التغييرات الحاصلة، ورأت فيها خطرًا كبيرًا على إمكانية استئناف العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، على حد تعبيرها. وقالت صحيفة quot;يديعوت أحرونوتquot; إن هذه الأوساط تعتبر ما حصل في تركيا quot;انهيارًا في آخر السدود أمام سيطرة الإسلام السياسي على تركياquot;. ولكنها رأت أيضًا أن لهذا التطور تبعات على السياسة الإسرائيلية من تركيا.
ومنذ العام 1960، أطاح الجيش بأربع حكومات من بينها عام 1997 حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان، ما يعرف بالمرشد السياسي لرئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان، ورغم عدم تحقيقه أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بما يتيح لحزبه تغيير الدستور، إلا أن أردوغان أعلن مراراً أن ثوب الدستور أصبح ضيقاً جداً على تركيا.
لا يمكن في هذا السياق إنكار الدهاء السياسي الذي مارسه أردوغان وحكومته في سياق سعيها لتقليم أظافر المؤسسة العسكرية، فعلى مدى السنوات الماضية نجحت حكومة أردوغان في تعديل 100 مادة من أصل 170 مادة من مواد الدستور، ما قلص من تدخلات الجيش في الحياة المدنية، وأخضع العسكريين لأول مرة للقضاء المدني.
فهل يستكمل quot;الطيبquot; مشوار التغيير الحقيقي والجذري لوجه تركيا قاسي الملامح باتجاه دولة مدنية أكثر عصرية وقرباً من النموذج الأوروبي في الدمقراطية، أم أن المعارضة العلمانية التي انكفأت خلال الفترة الماضية دون أن تختفي، والمعروفة بتحالفاتها القوية مع مؤسسة العسكر، حامي العلمانية في البلاد، سوف يكون لها شأن في حرف بوصلة التغيير الديمقراطي لتركيا بدافع من مصالح فئوية ضيقة، وإن كان ذلك بخلاف إرادة الشعب التركي الذي أيد حكومة حزب العدالة والتنمية بأغلبية مريحة؟


كاتب وباحث
[email protected]