عنوان الكتاب: مدينة الأرامل.. المرأة العراقية في مسيرة التحرير. |
ظلت المرأة العراقية بشموخها وعزة نفسها المعهودة رمزاً لثبات الشعب العراقي رغم ما واجهه من أزمات وحروب عبر تاريخه الطويل، بما يثبت تحضر هذا الشعب وعراقة حضارته. تفتتح الروائية والكاتبة هيفاء زنكنة كتابها من تجربتها الشخصية بالحديث عن مكونات العراق الديمغرافية، إذ تجمع بين الكردية (عن طريق الأب)، والعربية (عن طريق الأم)، لتشكل نموذجاً للترابط العراقي بين أطيافه القومية والمذهبية. وتأتي مواقف زنكنة مبرأة من كل ريبة انتماء أحادي إلى طرف ما من التكوينات السياسية التي تتجاذب مراكز القوى والنفوذ.
تعتبر قراءتها للتراجيديا العراقية مثقلة بالمآسي ومخلصة للعراق الذي قسمته المحنة وشتتت أبناءه، وبعثرتهم بين منافٍ ليست غريبة عليهم، وجزر ديمغرافية متجاورة لا متحاورة لكل منها حدودها وشعاراتها وأحلامها.
يمهد الكتاب بإنشاء مقدمة عن وضع جذور الواقع السياسي العراقي، ورغم نشر أصل الكتاب بالإنكليزية وتوجيهه إلى قارئ غير عربي أساساً، إلا أن المؤلفة تقدم خلاصة تنفيذية فيها نبذة تاريخية وجغرافية عن بلدها، تتكثف هذه المعلومات في القرن الأخير، حيث تبدأ ملامح التطور الاجتماعي الواضح مع الاحتلال الإنكليزي وما تلاها من حركات تحرر تعاقبت على الحكم في عمليات انقلاب سياسية وعسكرية في مسيرة النزاع على الحكم. وبالرغم من كل هذا فإن عملية التطور الاجتماعي ظلت تمضي نحو الأمام، وذلك بالرغم من معارضتها السياسية للحكم السابق.
تعرف الكاتبة نفسها كمعارضة سابقة لقيت وكثيراً من عائلتها ما لقيت من جزاء من تبعات عملها في الشأن السياسي، وخصوصاً في معارضة سياسية الحكم السابق، قبل أن تبين للقارئ رغم كل هذا ما فقدته المرأة العراقية بعد خمسة أعوام من الغزو، حيث أضحت البلاد مدينة من الأرامل.
يأتي الكتاب على نضال المرأة العراقية خلال قرن تبين الكاتبة أهمية الاحتفاء بتاريخ بلادها القديم والجديد على الرغم من التحديات الكثيرة وممارسات الاحتلال، وتتعدد آفاق الكتابة بين السرد التاريخي، وكتابة نصّ تأملي يقف على معنى كفاح الكاتبة لمدة أربعين سنة.
في الفصل الأول، تقف الكاتبة على جذور الواقع الجيوسياسي الذي يؤطر العراق، منذ الاحتلال العثماني الذي وحّد البلاد العربية تحت سلطة واحدة، حتى الاحتلال البريطاني الذي قام على وعد بدولة عربية كبرى لم تف بها مع حليفتها فرنسا، حيث تقاسمتما الأرض فيما يعرف بمخطط سايكس بيكو، ويبدأ من تلك الفترة مسيرة العراق الحديث وتنشأ معها حركة المرأة العراقية. حيث تنشط في أكثر من مجال، ويزداد عدد مدارس الفتيات وتنمو مواهب أدبية، حتى أن أكثر من عشرين شاعرة عراقية كنّ ناشطات في ثورة 1920 ضد الاحتلال البريطاني. ويستمر تطور الحركة النسائية مع الثورات والانقلابات المتعاقبة، وتنشأ حركات نسائية تابعة للأحزاب الناشطة على ساحة العمل السياسي، ويتعاضد الثقافي مع السياسي في تقدم اجتماعي ناضج، حتى أن قصب السبق في ريادة الشعر العربي الحديث كان فيه لفتاة عراقية.
وخلافاً للتلفيق العرقي والطائفي الذي نسجته الولايات المتحدة لتبرير الغزو، فقد كان حزب البعث علمانياً، كان صدام حسين يتبنى مقولات الاشتراكية في بناء كوادره، وفيما يخص المرأة تحديداً: 'quot;المرأة نصف المجتمع، والالتزام بالثورة والدفاع عن مكتسباتها هو السبيل الوحيد لتحرير المرأةquot;، الأمر الذي تحقق على أرض الواقع بداية السبعينيات من خلال التعليم المجاني، وخفض ساعات عمل المرأة، والإعلان عن حق المرأة في التصويت.
تتجه الكاتبة بعد هذا إلى سرد تاريخي متتابع للحروب التي جرت في السنوات الأخيرة: الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت وتبعات هاتين الحربين على الناس والبنية التحتية حيث: quot;أجبر الفقر والجوع والركود الفكري كثيراً من الناس على الفرار من البلدquot;.
وفي الفصل الثاني الخاص 'بغزو العراق'، تثير الكاتبة فضيحة النسوة الاستعماريات اللواتي انتسبن لمنظمات نسوية مدعومة من الإدارة الأمريكية، بحجة نشر الديمقراطية مثل منظمة 'نساء من أجل عراق حر' ومنظمة 'تحالف المرأة من أجل الديمقراطية في العراق'.. وغيرها من منظمات مدعوة لتبني وجهة نظر المستعمر، غاضة بصرها عن المآسي الحقيقية التي تتعرض لها المرأة العراقية: كحالات الإجهاض المستترة، والعنف المنزلي، وحالات الاغتصاب، وذلك من خلال تتبع دقيق لسير هذه المنظمات المشبوهة التي أدت دورها في أول الحفلة، حيث اقتصر دورها على دعم العملية السياسية. وفي النهاية تمّت مكافأة هذه المنظمات بتعيين بعض أعضائها في مناصب مختلفة في حكومات الاحتلال الثلاث المتعاقبة.
وفي الفصل الأخير 'الحياة تحت الاحتلال'، تتحدث الكاتبة عن بلد مدمّر منهوب من قبل شركات ومتعاقدين محليين وسياسيين، يتبوأ من خلال ذلك مرتبة متقدمة في الدول الأكثر فساداً. فبعد خمس سنوات من الغزو والوعود بحياة أفضل وبنعيم مقيم، لا تزال العمليات الأمنية تسوغ عمليات الاغتيال والخطف والمداهمة والقتل بدم بارد، حيث المجازر تتكرر بأساليب مختلفة، مثلما حدث في القائم، إذ تحول حفل زفاف في القائم إلى مجزرة راح ضحيتها اثنان وأربعون شخصاً من عائلتين، كذلك الأمر في الحديثة والإسحاقي، وتبين الكاتبة نصيب المرأة العراقية من القتل اليومي في رصد لقرابة عشر حالات كنماذج لآثار ديمقراطية الغزو: 'أطوار بهجت، مها إبراهيم، رائدة محمد وجيه'.
لا تغادر المؤلفة كتابها المشحون بالأسى دون أن تفتح نافذة الأمل في فصل سمته 'المقاومة' التي تشارك فيها المرأة العراقية من خلال المظاهرات التي تطالب فيها بالإفراج عن ذويها في السجون، والمشاركة الفعلية في المقاومة، وتوظيف الفن والإعلام في نشر فكر المقاومة، كالفيلم الذي أنتجته الصحفية زينة للقناة الرابعة البريطانية وعنوانه: 'العراق: حكاية النساء'، ومن خلال المدونات الشخصية على شبكة الإنترنت.
هي محاولات إنسانية نسوية لتوصيف ما عاناه العراق وشعبه من ويلات الحروب والاحتلال، حاولت المؤلفة تكثيف جرعات الألم وإيصالها إلى القارئ الذي ربما لا يقف على كثير من تفصيلاتها، فهل تصل معاناة نساء العراق إلى ساساته أولاً قبل الدول الغربية لرفع واقع طال أمده ولن يكون خلاصه ونهايته إلا بأيدي أبنائه قبل غيرهم.
....كاتب وباحث
[email protected]
التعليقات