ظل التشكيك بدوافع الحراك الشعبي في الوطن العربي بأكمله ديدن فئة من المثقفين والنخوبيين العرب المحسوبين على التيارات القومية واليسارية بحكم مفاجأتهم أولاً بتوقيت خروج آلاف الجماهير الغاضبة على سياسات أنظمتها إلى الشارع، وثانياً لجهة المحرك الحقيقي والفعلي لكل تلك الحشود الحانقة إلى ميادين التحرير في كل أرجاء الوطن العربي.
موقف بعض المثقفين العرب وهيمنة نظرية المؤامرة على تفكيرهم في ظل قناعتهم بهزال الشعوب العربية وعدم قدرتها على اجتراح ثورتها الخاصة دون تدخل خارجي، دفع تلك الفئة التي احترقت أوراقها وأسماؤها بسبب تلك المواقف في صفوف الجماهير العربية، إلى التردد في دعم تلك الحراكات والتحركات الشعبية بل والدعوة علناً إلى تخوين بعضها بحجة أنها تصب في خدمة أعداء الأمة التقليديين (إسرائيل والولايات المتحدة).
ما يدفع إلى السخرية ويثير الرغبة في الضحك (من) أو ربما (على) تلك الفئة من المثقفين التي عفى الدهر عليها، أن الذريعة التي رموا بها تلك الشعوب العربية من العمالة للمشروع الأمريكي الصهيوني، بشكل مباشر أو غير مباشر، قد تم استلابها منهم مع وصول نسائم التغيير العربي إلى داخل الكيان الإسرائيلي والشارع الإسرائيلي نفسه.
quot;الشعب يريد إسقاط نتنياهوquot;، laquo;الشعب يريد العدالة الاجتماعيةraquo;، laquo;نتنياهو إلى البيتraquo;، بهذه وغيرها من الشعارات، خرج أكثر من 20 ألف إسرائيلي في تل أبيب، في مظاهرة غير عادية، احتجاجاً على الغلاء الفاحش في أسعار السكن وغيره من مساوئ السياسة الاقتصادية الاجتماعية لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.
وقد بدت المشاركة الكبيرة نسبياً في هذه المظاهرة مفاجئة، أولاً للحكومة، فأضفت جواً من التوتر على جلساتها، وتبادل الوزراء الاتهامات التي بلغت حد الاشتباك، فضه نتنياهو بالصراخ والضرب على الطاولة. وقد جاءت هذه المظاهرة في إطار ما يسمى laquo;ثورة الخيامraquo;، داعين إلى مظاهرة آلاف تجعل من ميدان مسرح laquo;هبيماraquo; في قلب تل أبيب laquo;ميدان تحرير إسرائيلي يقود إلى إسقاط حكومة نتنياهوraquo;. وراح المتظاهرون يهتفون ويرفعون الشعارات التي تعبر عن ضائقتهم الحقيقية من ارتفاع الأسعار عموماً، والسكن بشكل خاص، حيث تبين أن نسبة ارتفاع الأسعار بلغت 64 بالمئة منذ سنة 2008. وإذا كان العامل أو الموظف يحتاج إلى 87 راتباً شهرياً (فقط) ليشتري بيتاً، أصبح يحتاج اليوم إلى 143 راتباً شهرياً. وهذا الحساب لا يشمل الضرائب التي يدفعها المواطن ولا مخصصات التأمين الوطني، ما يعني أنه يجب إضافة 25 ndash; 30 بالمئة إلى الرواتب المذكورة.
الكاتب الإسرائيلي في صحيفة laquo;يديعوت أحرونوتraquo; (يغئال سرينا) اعتبر أن هذه المظاهرة غير مسبوقة في تاريخ quot;إسرائيلquot; من ناحية شكلها ومضمونها ورسالتها، وأن الحكومة لن تستطيع تجاهلها أو اعتبارها مجرد حدث سينتهي مع أول موجة أمطار. فيما من المتوقع أن يعقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤتمراً صحفياً للإعلان عن خطة جديدة تهدف الى تخفيف أزمة غلاء أسعار السكن، ي استجابة إجبارية على ما يدبو لمطالب المحتجين ضده، وتنص هذه الخطة التي تمت بلورتها مع وزيري المالية والاسكان، على تخفيض قيمة الأراضي في العطاءات المطروحة لبناء شقق سكنية للايجار وفي عطاءات يحدد فيها المقاولون مسبقاً أسعار الشقق السكنية لتكون أرخص. وفي نطاق هذه الخطة ستطرح آلاف الوحدات السكنية للبيع بأسعار رخيصة مما سيخفف العبء عن الطبقات المعوزة. كما تقضي هذه الخطة ببناء آلاف الشقق السكنية للإيجار على مدى 10 سنوات على الأقل لتكون أسعار الايجار فيها خاضعة للمراقبة.
خطط حكومية إسرائيلية لاستيعاب الانفجار الشعبي من الوضع الاقتصادي quot;لجنة الشعب اليهوديquot; على الأرض بالنسبة للمهاجرين من أصقاع العالم إلى فلسطين، فيما لم تستخدم قوات الأمن أي قوة غير مبررة لقمع تلك الاحتجاجات، فهل يقتنع المزاودون من مثقفينا بأن ما يجتاح المنطقة من حراك، ناجم عن دوافع داخلية ذاتية، لا يمنع من ذلك إمكان توظيفها لصالح غايات خارجية، شئنا أم أبينا، أم أن أولئك المثقفين سيردون على مظاهرات الشارع الإسرائيلي الذي اعترف فيه نشطاؤه بالاعتبار والتأثر بالنموذج المصري في التغيير، بالقول: إن طباخ السمّ... لا بد أن يتذوقه.. أو حتى يتجرعه!؟.
كاتب وباحث
[email protected]