طال الزمن أم قصُر [ونتمنّى أن يقصر] سيذهبُ طاغيةُ الشام إلى مصيره الأسود. سيذهب، وسيكون بعد عقود قليلة، مجرد ذكرى كئيبة، لا تلفت نظر الكثيرين. سيغيب الجزّار quot;إلى الأبدquot;، فهو ليس بأقوى من حسني مبارك [وإن كان أشدّ دمويّة]. وستعود سوريا المخطوفة إلى أهلها وشعبها. تلك سنّة التاريخ: لكنّها السنّة التي تحتاج للثمن الأبهظ عربياً. والشعب السوري مستعدٌ اليوم لتسديد فاتورة حريته، مهما ارتفع سقفها. لقد قدّم حتى اللحظة آلاف الجرحى والشهداء. وحين يصل الرقم إلى هذا الكمّ، فإن الطريق تكون بلا عودة.
الطريق بلا عودة. كلنا يعرف ذلك. المؤيدون لما يحدث والمعارضون.
والجزّار أيضاً يعرف، لذا نراه يستغول أكثر، ويستشرس يوماً بعد يوم، كلّما تقوّت الثورة وكلما تملينت الحشود العزلاء في الشوارع.
ولأنّه دكتاتور، فهو لم يستوعب الدرس الطّريّ القادم إليه من تونس ومصر، ولا يزال يحلم بحلّ سحري يطوي هذه الصفحة، على طريقة العصا والجزرة: تقديم المزيد من quot;فتات الخسائر الممكنةquot; بيد، ورفع الهراوة الخشنة إلى مداها الأقصى، باليد الأخرى. فربّما يعود بعدها إلى كرسيّ العرش، هو وحاشيته، هانئين بلا منغّصات، وقد عَبَرَ عنهم هذا quot;الكابوسquot;.
لكنْ.. هيهات أيها الدكتاتور الواهم.
هيهات.. فما اجترحه الشعب السوري البطل، هو معجزة حقيقية بكل معاني الكلمة. معجزة، لا مجرد تنفيس عن غضب مكبوت أو عدوى انتقلت إليه من أشقائه التونسيين والمصريين.
نصف قرن من تغوّل السلطة الأمنية [لمن لا يعلم، في سوريا الأسد 16 جهاز أمني!]. نصف قرن من الرعب والخوف والهمس والمراقبة على مدار الدقيقة والثانية، في quot;جمهورية وراثية عربيةquot; تماثل وتناظر _ بكل المقاييس _ جمهورية quot;الأخ الأكبرquot; ماركة جورج أورويل.
لقد حدّثني شاعر فلسطيني معروف، عاش طويلاً في جمهورية الأسد الأب، أنّ الأهالي البسطاء كانوا يخافون حين يعبرون عن تمثال quot;الرفيق المناضلquot;. نعم: كانوا يخافون من مجرد المرور عن التمثال! فربما يراهم مخبرٌ وقد أتوا بحركة عفوية لا تليق، كأنّ يحكّ المرء كتفه أو قفاه [وقد حصلت] فيكون حينئذٍ الحسابُ العسير!
أفلا يكفي نصف قرن من هذا النوع، كي ينهض الشعب السوري [الذي حوّله الأسدان إلى مجرد أرقام] ويطالب بحريته وكرامته المستلبتيْن؟
كل الأسباب العلمية لقيام ثورة في سوريا كانت متوفرة _ تماماً مثل بقية شقيقاتها العربيات. والحيرة كانت فقط في فارق التوقيت: متى تندلع الشرارة المقدسة؟ في هذه السنة؟ السنة القادمة؟ بعد ثلاث أو أربع سنوات؟ ذلك أن لا أحد يعرف بالضبط متى تندلع الثورات، حتى لو توفرت لها جميع الأسباب.

والآن... يعرف المتابعون ومعهم حتى الأسد الابن في دخيلته، أنّ العدّ التنازلي لطي صفحة العائلة المالكة قد بدأ. لكنْ ما يؤلمني ويحيّرني هو تقاعس [إن لم نقل quot;تخاذلquot;] دمشق وحلب [المدينتين الكبريين بما لهما من ثقل] عن التحرّك والنزول للساحات بكثافة، مثل درعا ودير الزور وحماه.
لماذا؟ قد نستوعب ونتفهم بعض الأسباب، لا كلها. فلن يكتمل بزوغ الفجر السوري بدون دمشق وحلب. فهل سيطول انتظارنا؟
أرفض أن أكون متشائماً. لألف سبب وسبب. لذا سأظل أعوّل على القادم.

إنها لحظات ما قبل بزوغ الفجر السوري العظيم: اللحظات الأشدّ حلكة في ليل سوريا الطويل. لحظات الدم والدموع والتقتيل والتنكيل. وفي هذه اللحظات القاسية بالذات، المجيدة بالذات، ليس من حق أحد، لا المعارضة ولا أشباهها، أن تضبّب الصورة، وأن تجعل لون الدم الناصع يلتبس. الشعب السوري يواجه اليوم أعتى نظام قمعي في المنطقة، باللحم الحيّ. تلك هي آيته الكبرى، وذلك هو عبوره العظيم من عصر إلى عصر. فلا تخذلوه أيها المعارضون السوريون. وكونوا على مستوى تضحياته، لكي تتحقق الآمال الكبار.
أما النزول عن الجبل، فلم يئن أوانه بعد.
لم يئن بعد.
لم يئن.
وأما أنت يا فرج بيرقدار، يا من حلمت آلاف الليالي بهذه اللحظة، فنقول لك مباركٌ عليك أيها الشاعر. لقد اقترب فجر سوريا العظيم.
إنه يدق على الأبواب الآن. وينقر النوافذ، مثل عصفور النار.
فنم راضياً يا عزيزي.
لم تذهب تضحيات أمثالك عبثاً.
وإنّ شعبك، لَلَهم اليوم، لبالمرصاد.