الهردبشت هو الدِّفِشْ، ولمن لا يفهم اللهجة الفلسطينية، نقول: هو الإنسان الفوضوي، العديم المسئولية، الذي لا يتمتع بذرة منها، لذا تراه يخلط السكر على الملح، ويترك مصباح الغرفة ومروحتها والعيَن، حتى لو غادرها منذ أسبوع. لهذا يغيظني الهردبشت ويعصبنني، لكنني، وواقع الحال يشهد، أحب الهردبشت من جهة واحدة فقط: مش لئيم. فلو كان الهردبشت لئيماً لكان أيّ شيء غير أنه هردبشت. وعليه، فالهردبشت غير سياسي، إذا جاز القول. وعايش على التساهيل [مع أنه كم يصعّب الكثير من الأمور، نظراً لعدم تحمّله المسئولية] وأيضاً على فيض الكريم، أي على البركة. لا تخطيط ولا تنفيذ، ولا راحت ولا إجت [تُراه يكون الهردبشت وجودياً أو عدمياً بالمعنى الفلسفي الأوروبي ونحن وهو لا ندري؟] والله لولا خوفي من أن أتخّنها لجادلت وصاولت في ذلك. فكم يبدو لي الهردبشت أحياناً غويطاً فلسفياً وفاهمها من الآخِرِ، بالفطرة يعني، حتى دون أن يقرأ كتب الفلاسفة العويصة والسميكة. ذلك أنّ النتيجة واحدة والخلاصة واحدة، عند الهردبشت وكل فلاسفة التاريخ العدميين والميتافيزيقيين [يا الله معلش كبّرتها]، فهو يرى مثلهم، أنّ الدنيا ومن فيها ومن عليها، quot;مش مستاهلةquot;، قامت قعدت كله واحد. لهذا ترى الهردبشت ضاربها طناش، ومش مهموم خالص، إلا إذا _ كأي كائن يعيش بالغريزة- نقصت عليه الضروريات. حينها ترى وتسمع الهردبشت، وقد تحوّل شيئاً أخر لا يمتّ للهردبشتيّة بصلة. كلا في الحقيقة، يتوجب القول، ولاءً للحقيقة ذاتها، أن نضيف أيضاً : إلا إذا نقصت عليه الكماليات المتعوّد عليها دائماً. فالهردبشت كائن سرعان ما يستطيب الكماليات ويتعوّد عليها، مثله مثل سائر البشر التّفّه السطحيين [حرام، لقد ظلمت هذا النوع من البشر، فالتعوّد على الكماليات لا يختصّ بهم فقط، بل يتعدّاهم إلى أنواع أخرى من الكائنات البشرية وغيرها، لسنا في وارد تعدادها الآن].
وتشيع الهردبشتية في نوع آخر من الكائنات العليا، هم الشعراء والأدباء، وكل من لحقته آفةُ الاختصاص [على الأقل هذا هو التصور النمطي العربي الشائع عن أصحاب القلم _ واليوم عن مدمني الكيبورد، بعد أن أصبح القلم من كلاسيكيات الحياة الحديثة].
لكنها هردبشتية من صنف لا يخلو من الطرافة. كأن تجد شاعراً لا يملك قوت يومه [ما أكثرهم هنا في غزة- أقصد تحديداً الشعراء الشباب] وبدل أن يخرج شاهراً على المفسدين قلمه، تراه يتكلّم عن أشياء غير مرئية ولها وزن، كالهواء، مثلاً، وإن كانت بالطبع ليست الهواء.
تسمعه يحلق في عوالم من السمو والخصب .. إلخ، فيما لا شيكل ثمن سيكارة في جيبه منذ سنوات، بينما جاره الحيط لصق الحيط، في هذه السنوات ذاتها، صار مليونيراً [بالدينار لا الشيكل]، وقريبه فلان، فتح الله عليه تجارة الأنفاق، ففاق قارون في عدد مفاتيح خزائنه.
نعود للهردبشتية، وامتداداتها الفوقية هذه المرّة، فقد كشفت لنا ثوراتنا، على حين غفلة [وين كنا كل هذه العقود؟] أنّ نخبنا السياسية والاقتصادية والثقافية، كانت مؤمنة بالنظرية الهردبشتية، من صلعاتها حتى أخماص أقدامها. مع أن المفترض في هذه النخب ألا تكون كذلك، إلا إذا اتفقنا أن نزحزح صفة quot;الرثةquot; عن البروليتاريا ونلزقها بشويش بها فنقول حينها: نخب رثة. رحم الله طيب الذكر واللحية الخال ماركس.
حقاً، إنّ نخبنا هذه، لم تكن لا شرقية ولا غربية، لا رأسمالية ولا اشتراكية، بل كانت هردبشتية بامتياز وتخصّص.
ولدت نظريتها العربيةُ هذه من جغرافيا العرب القائظة وتاريخهم. أي بنت بيئتها. فلا تثريب ولا عتب.
واليوم، بعد افتضاح المستور، تبيّنَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود. إنها يا أخي محض هردبشتية تطال الصغير، ثم تصعد تدريجياً، حتى تنام في أحضان الرؤساء والملوك، حفظهم الله من هاجس وواغش القفص.
رؤساء وملوك، بلا خطط، لا تكتيكية ولا ستراتيجية، أللهم إلا إذا تعلّق الأمر بالسلطة وكرسي السلطة وضمان وصوله للأبناء. فحينئذٍ مفيش حد أحسن من حد، وما يصحّ للملك والأمير والسلطان، يصح للرئيس كذلك.
لكل ما سبق، سأخفف من اليوم وطالع، من حنقي على الهردبشتيين البسطاء، من ملح هذه الأرض ونكهتها، بل سأتعلّم كيف أسامحهم، بعدما فاجأتني ثورات الربيع العربي، بأنّ من وفّرت لهم الدنيا كل أسباب اللاهردبشتية، كانوا في خبيئتهم وعلانيتهم هردبشتيين!
رحم الله جيراني وأبنائي وزملائي ورفاقي الهردبشتيين، فهم ونحن كلنا [الناس اللي فوق واللي تحت] quot;جميعاً من نتاج الضعفquot;، بالتعبير البصير لكارل بوبر.
وعليه، فليس بعيداً عليّ، في قرن ما، أن أسامح حتى أولئك القتلة [قتلة شعوبهم وماسحو تراب الأرض بهم] ذلك quot;أن الأخطاء تُرتكب في كل يوم وفي كل الحقول. والفكرة القديمة القائلة إن صاحب السلطة في إمكانه أن يتفادى ارتكاب الخطأ، بل ينبغي عليه ذلك، فكرة بات لا بد من الإقرار بخطئها... - من هنا، انطلاقاً من إقرارنا بإمكان ارتكاب الأخطاء يمكننا أن نبدأ عملية إصلاحنا الأخلاقيquot;.
سلامي إلى الهردبشتيين، وإن كانوا يعصبنونني أحياناً، خاصة إذا كانوا من الناس اللي تحت. أما اللي فوق، فحاشا وكلا، على الأقلّ في هذا القرن، حتى لو خالفتُ رأي صاحبنا العزيز بوبر.