لن نشفق عليكم، سواء هربَ بعضُكم، أم أُحرقَ، أم وُضعَ في قفص. فلطالما أحرقتم قلوبنا. ولشدّ ما وضعتمونا في أقفاص الذل والمهانة.
أيها الحكّام الأقرب إلى رؤساء العصابات لا الدول. يا من ليس فيكم رجلُ دولةٍ واحد، كي نشير إليه ونقول إنه الاستثناء.
لن نشفق عليكم، لأنكم لا تستحقون الشفقة من الأصل. ولأنكم أفسدتم روح التسامح في أرواحنا من الأصل أيضاً [يا ليتها وقفت عند هذا الحدّ، فقد أفسدتم فينا إنسانيّتنا المهيضة كلها، حتى غدا مواطننا أقرب إلى مسخ أو مريض أو غبار إنسان، وحتى صار أكثرُنا يحسد الكلاب في أوروبا على ما لها من حقوق]
نصف قرن من خديعة التحرّر الوطني. نصف قرن من أكاذيب ما بعد ثورات الاستقلال. نصف قرن من السلطة الأمنية. هذا هو حالنا من محيط لخليج. لا دول ولا أشباه دول. بل سُلَط أمنية ربّها الأبدي هو الحاكم وعبدها الأزلي هو المحكوم.
أضحك مقهوراً كلما سمعت من ينادي بالصفح عنكم، ليس لدناءة في روحي، ولكن ليقيني بأنّ أمثال هذه الدعوات لا تجيد الإنصات لحركة المياه الجوفية العميقة في خبيئة المواطن العربي، quot;المواطنquot; الذي نطلق عليه هذه الصفة، من باب المجاز فقط، أو فقط من باب الاعتياد الببغائي والكسل، فهو منذ المهد حتى اللحد، يكون أي شيء غير هذا الوصف: عبداً، رعيةً، رقماً، إلا أن يكون مواطناً له حقوق وعليه واجبات.
وكل هذا بفضلكم: بفضل تشبثكم الشبقي بكرسي السلطة. كل هذا الخراب العميم، أنتم من أتيتم به، وأنتم صانعوه ورافعو رايته.
فكيف نشفق عليكم، ونحن أيضاً نحتاج لمن يداوينا ويشفق علينا؟
فاقد الشيء لا يعطيه. حكمة عظيمة قالها واقعيّ عظيم ذات يوم، وتصلح اليوم لإرسالها من هنا لأولئك المنادين بالعفو والسماح عن الرجال غير الملاح.
الرجال الجوف [وليأذن لنا شاعر الإنكليز باستعارة هذا الوصف]. الرجال الجوف من كل ما هو جميل ونبيل، الخلو من الحضارة، المحصّنون ضد المعرفة، المجرّدون من إنسانيتهم وسويّتهم الأخلاقية [وإلا كيف يسمحون لجلاوزتهم بالإيغال في دم الناس؟]
السيكوباثيون، الذين لا نعت لهم غير أنهم آكلو خطايا وصانعو أرامل وخالقو أيتام؟
إنّ أحداث الربيع العربي، كشفت، من ضمن أشياء رئيسة مُريعة، عن أمر جوهري استراتيجي في تفكير وسلوك مافيا الحكّام العرب: احتقارهم الشديد لشعوبهم! نظرتهم إلى هذه الشعوب، على أنها فقط جموع عبيد، أو مجموعة رعايا لا يحق لها الخروج عن طاعة سيدها.
نظرة قرون وسطى، ونظرة ما قبل الدولة وما قبل المجتمع وما قبل كل إنجاز بشري حديث.
وبما أنّ الضحية، بطول المدة والمكث، تتشابه مع جلاّدها، فكيف يُطالب المقموع، بالصفح عن قامعه! هل تريدونهم مثقفين ليبراليين، كالمثقفين العرب البعيدين، ليتعالوا على جراحهم ويغفروا؟ كيف quot;والدم في الشوارعquot; لم يجفّ بعد ولم يبرد؟
لا مغفرة لقاتل. لا سماح لسفّاح. لأنه لا مسيح في طوالع الألفية الثالثة. بل بشر مُهانون مُذلون، مكدودون من مجرد العيش. بشريّون بالكاد.
لا مغفرة لقاتل. لا سماح لسفّاح. أقولها بلسان الضحايا، وليس بلساني. أقولها لأنني أفهمهم وأحسّ بهم وأعرف على جلدي معنى أن تشهق امرأة فرغَ سرير ابنها، في وحشة الليل الثقيل .
لا مغفرة لقاتل. لا سماح لسفّاح. أقولها وأنا أحلم بيوم قريب، أرى فيه مافيا حكامنا، وقد نزلوا كلهم القفص، أو قُطّعوا إرباً في الشوارع [هل تطنّون أننا أرقى قليلاً أو كثيراً من الرومانيين؟]
واأسفاه!
إنّ هتاف quot;إلى مزبلة التاريخquot; لا يفي بالغرض. ولا صراخ quot;إلى الجحيمquot; يكفي. فلكَم ضلع هؤلاء في الجرائم. ولكم أفسدوا الحاضر ووأدوا المستقبل.
لقد حاولت ألا أشمت حين رأيت الفرعون الكبير في القفص. لكنني لم أستطع. جاهدت كيلا أقع تحت هذا الشعور الرديء، لكنني لم أفلح. تذكّرت إذلالي في سجونه: تذكّرت منعي من السفر طوال عقدين: تذكّرت ما فعله بغزة وأهل غزة. حاصرهم بالتواطؤ مع إسرائيل: قرار الحرب أُتخذ من قصره الجمهوري، وأعلنته حينذاك تسيبي ليفني.
تذكّرت تهديد وزير خارجيته بتكسير عظامنا. وقبل هذا وبعده: تذكّرت ما فعله بمصر التي أبداً لم يعرف قيمتها، أبداً لم يفهم تاريخها، وأبداً أبداً لم يكن بمستوى منصبه ولا حتى بمستوى مسئول محافظة.
وليس الفرعون فحسب، بل كلهم كلهم، من جزار سوريا ذي الابتسامة البلهاء التي تغيظ، إلى صنوه هنا أو هناك في هذه الجغرافيا المتصحّرة.
لكنْ كل هذا مضى أو في طريقه إلى الزوال. إن لم يكن اليوم فغداً، هذه السنة فالتي بعدها. لقد بدأ العدّ التنازلي. عمر الطغاة الافتراضي انتهى [وكان يجب أن ينتهي منذ أحداث أوروبا الشرقية].
اليوم: صفحة جديدة تُفتح. التاريخ الذي خرج عن السكة وغادرنا، هاهو يعود من جديد للسكّة. واليوم أولى البشائر: فهاهو فرعون مصر، وزعيم الجغرافيا العربية، يُخلع من عرشه، ومن بين جلاوزته [2 مليون رجل أمن] وينزل إلى الأرض، ليُحاكم كبشري خطّاء، وليس كإله معصوم.
وإنّ هذا، لو تدرون، لكثير. نزول متجبر من مصاف الآلهة إلى خشبة الركح، وسريان قوانين القضاء البشري عليه، ليس بالأمر القليل.
هنا أول السكة.
سيقال لقد شيطنتهم. كلا. بل الشياطين هم ولا شياطين سواهم. الشياطين فكرة ميثولوجية تعوزها الأدلّة، أما هم فواقع فاقع للأسف.
لقد نزل مبارك من المقدس إلى المدنّس.
والعقبى للجميع.
العقبى بشكل عاجل وخاص للقذافي والأسد.
- آخر تحديث :
التعليقات