صبحي غندور


هل كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 بدايةً لحقبةٍ زمنيةٍ جديدة في العالم، أم أنَّها كانت حلقةً في سلسلةٍ من وقائع عاشتها بلدان العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، وهل هو من قبيل الصدفة أن تكون المنطقة العربية، ومنطقة الخليج العربي تحديداّ، هي محطّ تفاعلات مع بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث قادت الإدارة الأميركية السابقة حربها على العراق بذريعة الردّ على ما جرى من إرهابٍ على أميركا، تُرى، لو لم تكن هناك جهاتٌ محليّة تتحرَّك بأسماء عربية أو إسلامية، هل كان ممكناً حدوث مثل هذه الصدمات أو الزلازل التي هزّت أركان الأرض العربية تحديداً؟
لو لم يغزُ النظام السابق في العراق الكويت (باسم الضمّ القسري الوحدوي العربي)، هل كان لأحداث 11 سبتمبر أن تقع عام 2001؟ فأعذار جماعات laquo;القاعدةraquo; لأعمالها الإرهابية في أميركا كانت الوجود العسكري الأميركي في شبه الجزيرة العربية بعد العام 1990.
هل كان لظاهرة laquo;جماعة القاعدةraquo; أن تظهر إلى الوجود في حين أنَّ مؤسّسها والعديد من عناصرها كانوا أصلاً خدّام السياسة الأميركية طوال أعوام حرب laquo;المجاهدين الأفغانraquo; ضدَّ النظام الشيوعي والقوات السوفياتية في أفغانستان؟
هذه أسئلةٌ مهمّة، لأنَّ laquo;المهندس الغربيraquo; استخدم ويستخدم laquo;مقاولينraquo; عرباً ومسلمين في إعداده لبناء laquo;شرقٍ أوسطيٍّ جديدraquo;، بل لبناء نظامٍ عالميٍّ جديد تحدَّث عنه جورج بوش الأب في مطلع عقد التسعينات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لقد سقط المعسكر الشيوعي وانتهت الحرب الباردة حصيلة ضغوطاتٍ وسياساتٍ اشترك في وضعها عددٌ كبير من laquo;الخبراءraquo; الذين رافقوا فترة حكم ريغان/بوش لثماني أعوام (1980-1988) ثمَّ فترة بوش الأب (1988-1992). وفي الحقبة الريغانية/البوشية، حصلت الحرب العراقية/الإيرانية، وحصلت ثورة المجاهدين الأفغان، وحدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثمَّ سقط الاتحاد السوفياتي مترنّحاً في فترة الرئيس بوش الأب بفعل نتائج الحقبة الريغانية، وما برز فيها من ضغوطاتٍ اقتصادية وسباق تسلّح وتعزيز كبير لدور المصانع العسكرية الأميركية وشركات النفط الأميركية ومؤسسة البنتاغون العسكرية.
وكان من الطبيعي التساؤل لدى مجموعة الخبراء هؤلاء، ومن بينهم من هم أصدقاء لإسرائيل، عن الصورة الأميركية المطلوبة للعالم الجديد، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وكان من الطبيعي أيضاً البحث عن عدوٍّ جديد يضمن استمرار تدفّق صناعة الأسلحة ويسمح باستمرار الانتشار العسكري الأميركي في العالم وبالسيطرة على مواقع الثروات الطبيعية فيه، وفي مقدّمها النفط.
أيضاً، كان من الضروري إبقاء الغرب الأوروبي تحت المظلَّة الأميركية وإضافة بقية دول أوروبا إلى هذه المظلّة، وهكذا أصبح حلف الناتو في عقد التسعينات حلفاً أميركياً/أوروبياً ضدَّ عدوٍّ مجهول أو ربّما قيد الإعداد!
إنَّ أوروبا، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، قد شهدت تحوّلاتٍ كبرى لم تنعكس فوراً على المنطقة العربية، رغم قربها الجغرافي من هذه المنطقة. فهناك دول بأوروبا اختارت شعوبها الوحدة مثل ألمانيا، وهناك دول اختارت شعوبها الانفصال مثل تشيكوسلوفاكيا، وهناك دول أخرى وجدت شعوبها نفسها فيها أمام صراعاتٍ دموية مثل يوغوسلافيا، وتفتَّت جمهوريات الاتحاد السوفياتي إلى موزاييك من الدول والثقافات وأنواع الحكم.
وجرى في عموم أوروبا الشرقية تغيير اقتصادي وسياسي وأمني بل وثقافي أحياناً، في ظلِّ رعايةٍ أميركية لكلِّ هذه التغييرات. وكانت حرب الخليج الثانية هي حلقة في سلسلة متغيّرات أرادت واشنطن فرضها على العالم (مع وجوب ألا ننسى أنَّ هذه المتغيّرات حدثت بإشراف laquo;مجموعة الخبراءraquo; نفسها التي رافقت ريغان/بوش منذ مطلع الثمانينات). وكان من المؤمَّل أميركياً أن تنسحب هذه المتغيّرات الأوروبية على المنطقة العربية أيضاً، وعلى جوارها الإقليمي في آسيا وأفريقيا، أي تغييرات أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية، وربّما في أنظمة الحكم أيضاً.
أيضاً، كانت إدارة بوش الأب حريصة على إنهاء ملف الصراع العربي/الإسرائيلي وفق صيغة مؤتمر مدريد، وما كان يجب أن يترتَّب عليه؛ من بناء شرقٍ أوسطي جديد يسوده التطبيع الكامل بين العرب وإسرائيل، ومن حلٍّ نهائي للمشكلة الفلسطينية من خلال توظيف نتائج غزو الكويت وتفاعلاته السلبية العربية... لكن هذه المخطّطات تعثَّرت، وخرجت laquo;مجموعة الخبراءraquo; من البيت الأبيض بعد حكم 12 عام، ودخل البيت الأبيض الأميركي طاقم جديد لا يحمل الرؤية نفسها ولا الخبرة نفسها أيضاً. فكانت فترة عهد كلينتون (8 أعوام) حالة تعامل بالاضطرار مع أوضاع عالمية أكثر منها مبادرات تخدم رؤيةً محدّدة.
وهكذا ساد الجمود السياسي منطقة الشرق الأوسط، فلم تسقط أنظمة، ولم تحدث تغييرات كالتي حدثت في أوروبا الشرقية، وتوقَّفت laquo;المحدلةraquo; الأميركية عن العمل حتى عودة laquo;مجموعة الخبراءraquo; من جديد إلى الحكم مع فوز الرئيس بوش الابن بصعوبةٍ بالغة.
ثمّ جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتنقل إدارة بوش من حالةٍ مشكوكٍ بشرعيتها وبشعبيتها الأميركية إلى حالة التضامن الأميركي الكامل معها ومع سياستها الراهنة في الحرب ضدَّ الإرهاب.
وفتحت أحداث 11 سبتمبر الأبواب كلّها أمام الرؤية الأميركية التي وضعتها laquo;مجموعة الخبراءraquo; عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وهي الرؤية التي تتضمّن إحداث متغيّراتٍ في الشرق الأوسط وفي جواره الآسيوي والافريقي بشكلٍ مشابهٍ لمتغيّرات أوروبا الشرقية.
من هي الجهاتٍ التي كانت وراء أحداث 11 سبتمبر 2001؟ طبعاً لا يملك أحدٌ إجابةً حاسمة عن هذا السؤال، لكن من الواضح جداً اعتراف laquo;جماعة القاعدةraquo; بمسؤوليتها وبالتالي اتّهام عربٍ ومسلمين بتنفيذ هذه العمليات الإجرامية الإرهابية يوم 11 سبتمبر في أميركا، وما وراء هؤلاء من جماعاتٍ ترفع شعاراتٍ إسلامية وأتباعها في الحقيقة يحلّلون ما حرَّمه الله تعالى في الشرائع السماوية كافّة، من قتلٍ وإرهابٍ للمدنيين الأبرياء...
لقد كان ما حدث في نيويورك وواشنطن في العام 2001 حتماً عملاً إرهابياً كبيراً، ولم تجد واشنطن من يختلف معها على ذلك، لكن وجدت واشنطن من اختلف معها في ظلّ إدارة بوش السابقة حول كيفيّة الردّ وحدوده وأمكنته، وأيضاً حول مدى شمولية مفهوم الإرهاب لدى السلطات الأميركية. فالولايات المتحدة ما زالت تعتبر أنَّ أيَّ عملٍ عسكريٍّ ضدَّ الجيش الإسرائيلي هو عمل إرهابي حتى لو كان هذا الجيش الإسرائيلي موجوداً بشكل احتلالٍ على الأراضي اللبنانية أو الفلسطينية! وقد دخلت أميركا بعد 11 سبتمبر 2001 حربها ضدَّ laquo;الإرهابraquo; كعدوّ، دون تحديد ماهيَّة العدو ومفهوم الإرهاب نفسه فاختلطت تسمية الإرهاب مع حقّ المقاومة لدى الشعوب الخاضعة للاحتلال، وهو حقٌّ مشروع بكافّة المعايير الدولية.
لقد عملت إسرائيل منذ 11 سبتمبر 2001 على استغلال الهجمات الإرهابية التي وقعت في أميركا، من أجل خدمة عدَّة غاياتٍ حاولت منذ مطلع التسعينات تحقيقها. حصل ذلك بينما إسرائيل تواصل محاولات إقناع الرأي العام الغربي، أن عدوَّه هو العالم الإسلامي، وبأنَّ هذا العدو يحمل مخاطر أمنية وسياسية وثقافية، تماماً كما كانت الحال مع عدوه السابق، الشيوعية.
ويظهر عمق الجهل الغربي بالمسلمين والعرب عموماً في عدم التفريق بين المسلم والعربي، فكلاهما واحد بنظره، على الرغم من أنَّ عشرات الملايين من العرب هم من غير المسلمين، ومئات الملايين من المسلمين هم من غير العرب!
وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية عربية وإسلامية) فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول كلَّ العرب والمسلمين أينما وجدوا، ويزداد حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه جهل عام بالإسلام وبالعرب، وحينما يقترن هذا الغضب بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة قام ويقوم بها عدد من العرب والمسلمين حتى في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني أصلاً من تضخّم عدد المهاجرين إليها وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية.
لقد غاب التوازن لعقود طويلة بين مدى حجم التورّط الأميركي الرسمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأميركي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حوله في العالم، إلى حين صدمة 11 سبتمبر التي كانت بمثابة صحوة من غفوةٍ زمنيةٍ طويلة، لكن الصحوة حصلت للأسف متزامنة مع محاولات تشويه متعمدة للعرب والمسلمين وقضاياهم ومعتقداتهم.
إنّ القوى الكبرى قد لا تصنع الحدث مباشرةً... لكنّها حتماً قادرة على توظيفه لما يخدم مصالحها وأهدافها في عموم العالم. المشكلة أنَّ الحديث بمعظمه يدور دائماً حول المستفيدين من الحدث وماهيّة مخطّطاتهم، وهذا أمر لا يمنع تكرار الأحداث الكبرى، طالما تواجد من يشارك بصنعها من منتمين للأمم وللبلدان الضحية.