رضوان السيد


عرفت القاهرة حركة حشود ووفود وأحداث في الأيام الماضية، تذكر بما كان يجري في الستينات أيام جمال عبد الناصر؛ فقد حدث الاجتياح للسفارة الإسرائيلية وما تلا ذلك من قلق دولي على اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم توالت الوفود والاحتجاجات: لجنة المتابعة العربية للذهاب إلى الأمم المتحدة من أجل فلسطين، ومجلس الجامعة العربية لتلقي تقرير من أمينها العام نبيل العربي عن زيارته لسوريا لعرض المبادرة العربية على السلطات هناك، ووفد أمني واستراتيجي إسرائيلي كبير لمحاولة ترميم العلاقات المتصدعة أو أن هذا هو الهدف المعلن، وأشتون مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وأبو مازن وخالد مشعل للتشاور في المصالحة، والمضي إلى الأمم المتحدة، ورجب طيب أردوغان للحديث مع السلطات المصرية بشأن laquo;العلاقات الاستراتيجيةraquo;، وللحديث أيضا أمام مجلس الجامعة في تصور تركيا للعلاقات التركية - العربية الجديدة، وفي الثورة في سوريا. وأخيرا وليس آخرا مئات من المعارضين السوريين الذين التقوا لمناقشة توحيد المعارضة من أجل دعم الثورة بالداخل، وتظاهروا أمام الجامعة العربية احتجاجا على الزيارات غير المجدية لأمين عام الجامعة للنظام السوري القامع لشعبه.

ولا شك أن المشاورات الخاصة بالقضية الفلسطينية كانت هي الأبرز في لقاءات القاهرة، ولها محركان قديم وجديد؛ المحرك القديم، الذي من أجله تكونت لجنة المتابعة في الأصل هو توقف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بسبب استمرار الاستيطان، واعتزام السلطة الفلسطينية الذهاب مع العرب إلى الأمم المتحدة من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود عام 1967. أما المحرك الجديد فهو الإغارة laquo;الشعبيةraquo; على السفارة الإسرائيلية، واضطرار السفير والموظفين للهرب منها والعودة إلى إسرائيل. وهذا يعني أن اتفاقية كامب ديفيد صارت معرضة للتهديد. وليس هذا فقط؛ بل إن إسرائيل صارت معرضة وجوديا للتهديد الحقيقي لأول مرة منذ عام 1948. لقد تجمع الغضب من حولها، وتحولت مرتكزات استقرارها إلى مصادر للتهديد من كل النواحي: مصر مبارك التي اعتمدت إسرائيل عليها خلال عهده الطويل، صارت أحد مصادر الخطر. وكذلك الأمر مع تركيا التي كانت مناط الاستقرار الآخر. وهناك جمهور يهودي عريض في الكيان الغاصب يتظاهر بسبب ومن دون سبب. والحدود مع سوريا التي استقرت لنحو العقود الأربعة، يسودها عدم التأكد بسبب مشكلات النظام السوري مع شعبه. وما علة ذلك كله؟ علته الأبرز والأوقع: نزول الجمهور العربي إلى الشارع، وإسقاطه للأنظمة التي كانت تحمي عمليا حدود الكيان. وقد شبه نتنياهو الحراك العربي بالزلزال الأرضي، الذي يهدد الدولة الإسرائيلية حتى لو كان الداخل مستقرا، فكيف وهو لم يعد كذلك؟!

لقد عادت السلطة الفلسطينية لبناء سمعتها بالداخل الفلسطيني، وفي المجال الدولي حين قررت ثلاثة أمور: قطع التفاوض ما استمر الاستيطان، والاتجاه للأمم المتحدة بمعاونة العرب، والتصالح مع حماس بأي ثمن. وأقبلت الدول الآسيوية فالأوروبية على إعلان الاعتراف بدولة فلسطين. وشعر الإسرائيليون والأميركيون بالخطر، فضغط أوباما وتوعد الفلسطينيين من دون جدوى. وقد قال لي أحد الخبراء البريطانيين: تصور المصريين والليبيين والأردنيين والتونسيين يتظاهرون أمام السفارات الإسرائيلية والأميركية في بلدانهم، ويحرقون العلم الأميركي، بعد أن تكون الولايات المتحدة قد استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن في مواجهة طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة! وهكذا حدثت ثلاثة وقائع: الواقعة التي تعني أن الجمهور العربي هو الأكثر تهديدا لإسرائيل ليس من أنظمة الجوار فقط؛ بل ومن حركات التحرير الإسلامية تحت اسم المقاومة والممانعة. والواقع أنه منذ حرب عام 1973، ما عادت أنظمة الجوار تثير قلق إسرائيل، إما بسبب اتفاقيات فك الارتباط أو الصلح، أو لأن تلك الأنظمة تحولت بالجملة إلى جانب الولايات المتحدة. ولذلك صار من المفروض أن يتولى الفلسطينيون بأنفسهم تحرير أرضهم عن طريق منظمة التحرير، التي كان أقصى ما بلغته توقيع اتفاقية أوسلو (1993)، والتي نجحت نجاحا محدودا تمثل في قيام السلطة الفلسطينية على بعض أراضي فلسطين المحتلة. إنما حتى هذا النجاح المحدود ما تحقق بالسلاح، بل بالانتفاضة المدنية للشعب الفلسطيني منذ عام 1988.

وحين غادرت السلطة الفلسطينية الكفاح المسلح، تولته التنظيمات الإسلامية مثل حماس وحزب الله. أما حماس فصار أكبر إنجازاتها السيطرة على غزة بعد تحريرها وفصلها عن الضفة الغربية. وأما حزب الله فقد استطاع بالكفاح المسلح إرغام الإسرائيليين على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية التي احتلوها، وذلك عام 2000. وجاءت حرب عام 2006 لتوضح حدود قدرات الحزب قدرة وثباتا، واستدارة إلى الداخل اللبناني للاستيلاء عليه، دونما حاجة للستر أو للتبرير إلا بالمقاومة التي لم تعد تقاوم غير تفلتات الداخل! وهكذا ما وجدت القضية الفلسطينية حلا أو مستقرا لا بتفاوض السلطة، ولا بانتحاريات الحركات الإسلامية وبطولاتها. والواقعة الثانية: تغيير المدى الاستراتيجي العربي نتيجة الثورات، وصيرورتها قوة يحسب لها حساب ليس تجاه الأنظمة فقط؛ بل وفي مجال تحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي، وهو الأمر الذي عجزت عنه الدول، وعجزت عنه الحركات الإسلامية المسلحة، وعجزت عنه أخيرا تكتيكات التحرر بالتفاوض. والواقعة الثالثة: انحشار الولايات المتحدة بين حكومة المستوطنين بإسرائيل، والشعوب العربية التي تريد التحرر والتحرير.

لا تزال القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية ليس بسبب احتلال الأرض فقط، بل وبسبب ضرب المدى الاستراتيجي للأمة، وفرض التدخلات الخارجية عليها تارة من أجل صون أمن إسرائيل، وطورا من أجل تأمين مناطق نفوذ لإيران وتركيا بموافقة الولايات المتحدة. وقد أدرك العرب معنى الفراغ الاستراتيجي، ومعنى دخول عدة جهات على الخط بحجة المساعدة في قضية فلسطين. وهكذا فقد بدأت قبل الثورات العربية حركة تصحيحية قادتها دول الخليج، فاعتزمت المضي مع أبو مازن وفي مواجهة إسرائيل وأميركا إلى الأمم المتحدة.

وجاء الحراك التغييري العربي فغير المشهد تغيرا راديكاليا، وبدا لأول وهلة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية داعمة لهذا التغيير. إنما عندما وصل الأمر للذهاب إلى الأمم المتحدة تعثرت إدارة أوباما أمام اللوبي الصهيوني بالداخل الأميركي، وتردد الأوروبيون أو بعضهم. إنما الأهم من ذلك أن الشعور بالخطر ما أتى نتيجة تصرفات قام بها التغييريون العرب تجاه إسرائيل بالذات، بل نتيجة تغير الوضع الاستراتيجي بالمنطقة بسبب نزول الناس للشارع. فالشعب السوري هو الذي سيحرر الجولان بغير طرائق الممانعة والمقاومة على مدى الأربعة عقود، وربما كان الأمر كذلك مع فلسطين. وهناك عقبتان: عقبة حكومة المستوطنين في الكيان الصهيوني، وعقبة استمرار الإسلاميين في اعتبار أنفسهم مسؤولين بالتحديد عن التحرير استجلابا للشعبية. إنما لا يمكن العودة إلى حالة اللاحرب واللاسلم. فإما أن تنشب حرب يتسبب بها المتطرفون من الجانبين، أو ترغم إسرائيل على وقف الاستيطان وحل قضايا الوضع النهائي، والعمل على تحقيق السلام عن طريق الموافقة على قيام الدولة المستقلة. وقد كان بالقاهرة كل من أشتون وأردوغان. وقد جاءت السيدة المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي للتشاور في مسألة الذهاب للأمم المتحدة، لكنها بالتأكيد laquo;تتفاوضraquo; أيضا على العودة laquo;للتفاوضraquo;! وجاء أردوغان من أجل العلاقة الاستراتيجية، ومن أجل حلوله العجيبة في سوريا، لكنه جاء أيضا ليقول إنه منزعج من إسرائيل، ويريد حلا تفاوضيا للقضية الفلسطينية. ولذا لن يكون غريبا أن يخضع نتنياهو أو يغادر أو تقع الحرب!