محمد جابر الأنصاري

كانت العرب تقول قديماً: ldquo;لابد من صنعا، وإن طال السفر!rdquo;، وقد كانت صنعاء عاصمة الحضارة العربية والتقدم العربي في ذلك الوقت، ونظراً لبعدها فوق رؤوس الجبال الشم قال عرب الشمال المنبسطة أرضهم هذه العبارة، في الدلالة على إمكان بلوغ البعيد، وإن طال السفر إليه.
وعندما بدأ تقليد عواصم الثقافة العربية في زمننا الراهن وأعلنت اليونسكو ldquo;القاهرةrdquo; عاصمة للثقافة العربية استغربتُ أن تعلن منظمة دولية لا يزيد عمرها على نصف قرن مدينة عمرها قرون، منذ أن أنشأها جوهر الصقلي، وبنى فيها الأزهر الشريف، واستقت منها أمتها العربية من المحيط إلى الخليج، عبق الثقافة ومعنى العروبة، ونزعة التقدم. كانت ldquo;القاهرةrdquo; بالفعل عاصمة الثقافة العربية طوال هذه القرون، وقد اختارها العرب لذلك، بحكم دورها الرائد.
ولا أدري أي مدينة عربية، جاءت بعد القاهرة، في تسلسل عواصم الثقافة العربية، ولكن الذي أدريه أن الاعتبارات المادية غلبت الاعتبار الثقافي المحض، وأن الإمكانات المادية تقدمت على التراث الثقافي الأصيلhellip; إلى أن جاء إعلان ldquo;المنامةrdquo; عاصمة للثقافة العربية هذا العام.
وإذا كان ينبغي إرجاع الفضل لأهله، فلا بد من الثناء على جهد الوزيرة النشطة- وفي مملكة البحرين تقدير عريق للمرأة ازداد مع مشروع ملكها الإصلاحي- الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة البحرينية، التي عرفناها، مهتمةً بالثقافة منذ أن أنشأت مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، الذي كان رائداً للثقافة الحديثة في البحرين، ثم أتبعته ببيوت أخرى للصحافة والشعر والتراث.
وكان كاتب هذه السطور، عندما عاد من بيروت بعد إنهاء دراسة الماجستير عام 1968م، قد أصدر أول كتبه عن الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، لأنه وجده الأول في سُلّم الانبعاث الثقافي، ليس في البحرين وحدها فحسب بل في الخليج العربي كله، حيث كانت البحرين بمدارسها ومعاهدها ومنابرها الثقافية جاذباً للنخب الواعية في منطقة جوارها العربي، وكان أفراد بارزون من تلك النخب العربية الخليجية يقصدون البحرين للتزود بما يعتمل فيها من علم جديد ونظرة مختلفة للحياة والعالم.
وقد شهدت البحرين نفسها تنافساً ثقافياً إيجابياً بين مدينتين فيها هما المحرق والمنامة التي تم إعلانها الآن عاصمةً للثقافة العربية هذا العام (2012م)، بينما يذكرنا بذلك التنافس الفكري بين حماة وحمص في سورية، وبين عنيزة وبريدة في نجد بالمملكة العربية السعودية وربما في غيرهما.
والمحرق هي العاصمة التاريخية للبحرين ولؤلؤة التاج الخليفي فيها، وحديث أمين الريحاني في ldquo;ملوك العربrdquo; عن البحرين، كان منصباً عن النشاط الثقافي والفني بمدينة المحرق، ففي هذه المدينة افتتحت مدرسة الهداية الخليفية عام 1919م كأول مدرسة نظامية للتعليم الحديث، وتبعتها مدرسة ldquo;خديجة الكبرىrdquo; للبنات عام 1928م أي بعد تسعة أعوام فقط، وأسس شاعر البحرين وصحفيها الأول عبدالله الزايد ldquo;النادي الأدبيrdquo; فيها عام 1920م، وكان النادي الأدبي موئلاً للمثقفين الأوائل في المحرق والبحرين كلها، وفيه تم ترتيب السفرة الأدبية إلى القاهرة بمناسبة الاحتفال بتنصيب أحمد شوقي أميراً للشعر العربي.
وقد حمل الوفد البحريني معه نخلة من ذهب بلحها من لؤلؤ، وهي هدية من حاكم البحرين حينئذ الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة وباني نهضتها، للشاعر المصري الكبير بمناسبة تنصيبه أميراً للشعر، حيث خلّد المناسبة والهدية البحرينية بقوله:
قلدتني الملوك من لؤلؤ البحريـhellip;. ـن آلاءها ومن مرجانه
إلى آخر هذه القصيدة التي تضمنها ديوان شوقي، وكانت مكتبة النادي الأدبي حافلة بالكتب والمجلات الجديدة، وفي رحابها تربى عبدالرحمن المعاودة، ldquo;شاعر الشبابrdquo;، شباب المحرق ثم شباب البحرين والخليج قاطبة وللمعاودة قصيدة مؤثرة مطلعها:
ldquo;إذا لاح من صوب المحرق بارقrdquo;
وينتمي كاتب هذه السطور إلى المحرق بحكم النشأة المبكرة، كما أن وزارة الثقافة البحرينية تتركز الآن معظم مشاريعها الثقافية والتراثية بمدينة المحرق كطريق الحرير وبيوت الغوص على اللؤلؤ، عدا بيت الشاعر إبراهيم العريض، غير أن المنامة التي تبعد عن المحرق بضعة فراسخ بحرية، قبل بناء الجسر بينهما، لم تكن أقل شأناً من العاصمة التاريخية، ومن يعود إلى الريحاني في كتابه يجد فيه أيضاً وصفاً للمنامة وعمرانها وأسواقها وواجهتها البحرية كما أنها قدمت للبحرين والخليج شعراء كباراً أبرزهم إبراهيم العريض، وغازي القصيبي، وعبدالرحمن رفيع.
وقد خلد غازي القصيبي- الذي كان وزيراً وسفيراً سعودياً- المنامة التي تلقى فيها دراسته الابتدائية والثانوية وتشكل فيها تكوينه الثقافي العام في ديوانه البكر (أشعار من جزائر اللؤلؤ) عندما قال:
laquo;الضوء لاح فديت ضوءك
في السواحل يا ldquo;منامةrdquo;
فوق الخليج أراكِ زاهية
الملامح كابتسامة
المرفأ الغافي وهمسته
يهنئ بالسلامة
ونداء مئذنة مضوءة
ترفرف كالحمامة
يا موطني ذا زورقي أوفى عليك، فخذ زمامهraquo;
وكان التسامح الديني من سمات البحرين، ففي العشرينيات من القرن الماضي، منح حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي الكنيسة الكاثوليكية في البلاد أرضاً لبناء توسعتها عليها، وفي عام 1940م منح بابا روما الشيخ حمد وسام الفارس الأكبر في النظام المقدس للبابوية (سان سلفستر). وكان الشيخ حمد قد قام بأداء فريضة الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عام 1937م وسط احتفاء الأمراء به من أبناء الملك عبدالعزيز. (الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة ود. علي أباحسين- ldquo;تاريخ آل خليفة في البحرينrdquo;، ج2، ص 464).
وقد امتدت هذه الروح إلى الجيل الأدبي الجديد في البحرين، فيشير الفنان البحريني خليفة العريفي في كتابه القصصي الأخير ldquo;جمرة الروحrdquo; الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011م إلى وجود دعاة أديان في آسيا من غير تقليد الديانات السماوية، وهي فكرة غير معهودة في هذه المنطقة من العالم، وهذه الفكرة غيض من فيض مئات الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة لعلي عبدالله خليفة وقاسم حداد وعلي الشرقاوي ومحمد حسن كمال الدين في الشعر، ولعلوي الهاشمي وإبراهيم عبدالله غلوم في النقد، ومحمد الخزاعي في المسرح، وعبدالله المدني ونادر كاظم في البحوث، ومنصور سرحان في التوثيق هذا فضلاً عن الكتابات الصحفية. وتصدر في البحرين الآن- على صغر رقعتها ومحدودية سكانها- خمس صحف يومية بعد أن فتح المشروع الإصلاحي لملكها حمد بن عيسى آل خليفة حرية التعبير، وسمح للصحافيين بتأسيس جمعية ldquo;لهمrdquo;، وتشارك الصحافة البحرينية في الاحتفاء بإعلان المنامة عاصمة للثقافة العربية وتضع شعارها على صفحتها الأولى، كما صرحت بذلك وزيرة الثقافة بعد أن استضافت رؤساء تحرير الصحف البحرينية.
ويتماشى الازدهار الثقافي في البحرين مع إعلان المنامة عاصمة للثقافة العربية، حيث تم افتتاح مركز عيسى الثقافي قبل سنوات من قبل عاهل البلاد الذي أراد المركز رمزاً ثقافياً لمشروعه الإصلاحي، وعندما أقمنا المعرض الأول للكتاب البحريني (افتتحه ولي عهد البحرين) تبين من إحصاء أشرف عليه د. منصور سرحان مدير المكتبة الوطنية في المركز وقام به مساعدوه، أن ما صدر من كتب بحرينية في العهد الإصلاحي يفوق ما صدر منها في مئة سنة! ويشهد المركز هذا الأسبوع أمسية في الموسيقى الأندلسية بأداء فرقة مغربية بدعوة من رئيس مجلس أمنائه الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة.
لقد أصدرت وزارة الثقافة البحرينية البرنامج السنوي للحدث، كما قامت وزيرة الثقافة البحرينية بالتحدث عنه في القاهرة وباريس والرياض.
وحسناً فعلت عندما أضافت الرياض إلى برنامجها، وقد اقترحت عليها الذهاب إلى الخبر أو الدمام في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، فالبحرين في جوارها والسعوديون يأتون من الرياض والمنطقة الشرقية لاقتناء الكتب الجديدة في مكتبات البحرين.
والسنة المقبلة ستكون المنامة عاصمة السياحة العربية، وقبلها وبعدها يظل السعوديون في البحرين سياحاً ثقافيين.