حسن حنفي


يظن البعض أن السياسة والثقافة عالمان مختلفان. فالسياسة عالم الفعل والنشاط والممارسة والإنجاز، في حين أن عالم الثقافة عالم النظر والفكر والتأمل. الأول للجماهير، والثاني للنخبة. الأول للعمال والفلاحين، والثاني للمثقفين. السياسة فعل أكثر من كونها قولاً. في حين أن الثقافة قول أكثر منها فعلاً. السياسة ثقافة لأنها تقوم على أسس نظرية، والثقافة سياسة لأن النظر يمهد الطريق إلى العمل.





وقد ثبت ذلك بالفعل في المدة الأخيرة في quot;وثيقة إعلان المبادئ الدستوريةquot; الحاكمة للدستور، وجعل المجلس العسكري فوق رقابة الحكومة والبرلمان حفاظاً على الأمن القومي. وهناك أسرار عسكرية لا تـُعلن خاصة فيما يتعلق بأنواع الأسلحة وخصائصها، مما يفتح الباب للرشاوى والعمولات في شراء الأسلحة. فالمؤسسة العسكرية مثل باقي المؤسسات عرضة للفساد. المجلس العسكري فوق مجلس الوزراء، فهو الذي يعينه ويقيله. يقترح القرارات ولا يصدرها. هو المسؤول نظراً لتفويض رئيس الجمهورية السابق سلطاته له. سلطة أتت quot;من فوقquot;. والمادتان التاسعة والعاشرة اللتان في الإعلان فوق الدستوري تجعلان المجلس العسكري فوق الرقابة والمحاسبة. وقد يتم التخفيف من هذه الفوقية لتصبح استرشادية وليست ملزمة، ندباً وليس وجوباً بلغة أصول الفقه.

والفوقية هي التي تجعل السلطة تفعل كل شيء دون رقيب أو استشارة. وقد حاول المعتزلة في تراثنا القديم رد الاعتبار للقانون الطبيعي الذي يتحكم في الظواهر، وتفسير الظواهر من quot;تحتquot; وليس من quot;فوقquot;. فاتهموا بالكفر والإلحاد. وحاول الأشاعرة التوسط بين الفوق والتحت، ولكنها انتهت إلى إعطاء الأولوية للفوق على حساب التحت. وظل الصراع قائماً على طول التراث الإسلامي والانتصار للفوق باستثناء ابن رشد الذي أراد أن يرد الاعتبار للعقل والطبيعة، للنظر والعلم، ولكن سطوة الغزالي كانت قوية. وكانت سطوته عامة في كل العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وكُفر ابن رشد. واحتضنته الثقافة الغربية فساعد على إنهاء العصر الوسيط وبداية العصور الحديثة القائمة على العقل والعلم. ونحن ندعو منذ فجر النهضة العربية الحديثة منذ قرنين من الزمان الدعوة إلى ثقافة تقوم على العقل والعلم أسوة بالثقافة الغربية ولكن التقاليد الفكرية المغروزة في الثقافة العربية منذ الغزالي في القرن الخامس ما زالت مغروزة في النفس العربية. وما زال الصراع بين quot;الفوقquot; وquot;التحتquot;، بين الأعلى والأدنى قائماً. مازال الصراع بين الفعل خارج القانون والفعل طبقاً للقانون سائداً.

وكل فريق يفسر النصوص الدينية لمصلحته. ويختار منها ما يشاء طبقاً لهواه. وقد أفرز التيار الأول أمثالاً عامية تؤيده. تقال في الأحزان من أجل السلوى والعزاء، تخفيفاً لوقع المصائب. ومنها عادات شعبية مثل الدعاء واليد مفتوحة إلى السماء ثم مسح الوجه بها. وهو ما سماه إقبال فلسفة السؤال. وأفرز أيضاً التيار الثاني أمثالاً مضادة. وهو ما حاول الأفغاني تقويته في نفوس الناس quot;عجبت لك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمكquot;. وهو ما تحول إلى شعارات سياسية في العصر الليبرالي في تاريخ مصر الحديث مثل quot;الشعب فوق السلطةquot;، وquot;الأمة فوق الحكومةquot;، وquot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;.

أنتجت الثقافة الأولى بنية اجتماعية ما زالت مستمرة تعطي الأولوية للحكم على المحكوم، وللرئيس على المرؤوس. تعطي الأولوية في كل شيء للسلطان والمستبد ورئيس العشيرة والزعيم. تدافع عن قوامة الرجل على المرأة، وسيطرة الأغلبية على الأقلية. تدعم ديكتاتورية الفرد والجماعة، الأغلبية أو الأقلية، الطبقة أو quot;الشلةquot;، الأسرة أو القبيلة أو العشيرة أو الطائفة. هي الثقافة التي تدعم المجلس العسكري باسم القوة والنظام والأمن، والدولة الدينية باسم الإيمان. هي الثقافة التي تؤسس المجتمع الأبوي، ثقافة quot;سي السيدquot; والمجتمع الذكوري. هي الثقافة التي تجعل الديكتاتورية طبيعية، والاستبداد قائماً، والثقافة هرمية. فمنذ نشأة الحضارات والهرم رمزها، الأعلى والأدنى، القمة والقاعدة، الفرعون والشعب )أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(، )أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي(. هي ثقافة المعبد والثكنة، ثقافة المقدس والمعسكر. هي ثقافة الرأي الواحد، والحق الواحد، ثقافة التعصب.

والثقافة الثانية هي التي تقوم على السببية، وارتباط الظواهر فيما بينها بقانون العلّية، العلة والمعلول. هي الثقافة التي تجعل العالم مألوفاً، يسير طبقاً لنظام يستطيع الإنسان أن يدركه ويتعامل معه، ويأنس له. هي الثقافة الأفقية وليس الرأسية التي تجعل العلاقات بين الطرفين بين الأمام والخلف، بين السابق واللاحق. وليس بين الأعلى والأدنى، والأقوى والأضعف، والأكثر والأقل. هي الثقافة التي تنتج عنها سياسة المساواة في الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرؤوس، بين الرجل والمرأة. ولا تعني هذه الثقافة الوقوع في الحتمية المطلقة فهناك الاحتمالات ما زالت قائمة وإمكانية وضع فروض عدة يتم التحقق من صحة أحدها ضد التعصب والقطعية والرأي الآخر. هي الثقافة التجريبية التي يعرف الإنسان من خلالها قوانين الطبيعة. وهي الثقافة التي اتبعها الوحي بتدرجه ومراحله. كل مرحلة تتفق مع درجة تطور الإنسانية، وتدفع إلى المرحلة التالية، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام، من القانون إلى المحبة إلى العدل، أي المحبة القائمة على القانون، أو القانون القائم على المحبة. وفي كلتا الحالتين هو قانون جدلي، الموضوع ونقيض الموضوع ثم المركب بين الموضوع ونقيضه.

الثقافة الأولى هي المغروزة في القلوب والمطبوعة في العقول حتى أصبحت معادلة للفطرة وخلق الله الناس على درجات. والدرجة عند المحافظين في القوة والغنى والسيادة، وعند الليبراليين في العلم والتقوى والأخلاق. وطالما أنها هي السائدة في الثقافة الشعبية فإنها تجهض أي ثورة، وتحبط أي تقدم، وتمنع أي تغيير. تفرز الاستبداد والتسلط، لا فرق بين المستبد العسكري والمستبد الديني أو المستبد الغربي طبقاً للرموز الثلاثة: quot;الكابquot; وquot;العمةquot; وquot;القبعةquot; مهما حاول quot;الطربوشquot; أي الأفندي الوطني أن يزيحها من أمامه إلى أن يصبح عاري الرأس لا هوية له. تزحزحه الرموز الثلاثة الأولى عن العمل الوطني.

إن التحدي الكبير لنجاح أي ثورة في مصر هو التحول من الثقافة الأولى إلى الثقافة الثانية، من ثقافة الاستبداد إلى ثقافة الحرية، من الثقافة الرأسية إلى الثقافة الأفقية، من ثقافة quot;الفرقة الناجيةquot; إلى ثقافة الفرق المتعددة، من ثقافة الهرم الثابت الأبدي إلى ثقافة النيل الجاري والمتدفق، من ثقافة الثبات إلى ثقافة التغيير.