هل سوريا في طريقها للعسكرة والاقتتال؟ لماذا كل هذه الكراهيات؟ لماذا كل هذا القتل؟
إن مأساة سوريا تذكرني بكوسوفو ومذابح الصرب، فهل يمكن للمقاومة المدنية أن تنجح أم أن البلد سيغرق في حمام دم يتبعه ندم كبير من كل الأطراف.
في هذا تنفعنا جدا عظة التاريخ.
في مطلع عام 1980 للميلاد كان العالم يحدق باتجاه رجل يترنح في سكرات الموت ، ومع لحظات توديعه للحياة باح (تيتو) بسره: لقد وضعت حجر الرحى على فم بئر من الكراهيات إذا انزاح غطاؤه خرجت كل الثعابين والروائح الكريهة منه، حافظوا على هذا الغطاء مسمَّراً إلى الأبد؟!
ينقل نفس الكلام عن نوري سعيد العراقي أن مقتله سيقود إلى انبعاث روائح (الجشما) دورة المياه (عفوا)!
هل يمكن لخرَّاج القيح أن يعس داخل الأنسجة بدون انفجار؟
إن الجراحة مثيرة في هذه النقطة، عندما ضربت بالمبضع على المكان المحتقن لتحول فوهة التصريف إلى الخارج قبل أن يتسمم البدن وتموت كل العضوية، مع هذا فإن البدن يحمل من آليات الحكمة أن يسعى لفتح الطريق لنفسه بعد جهد ووقت ومعاناة إذا لم يسعفه مبضع الجراح!
الخراجات الاجتماعية تعمل بنفس الآلية، عند احتشاد اثنيات غير متفاهمة، كذلك كانت البلقان ودخلتها العراق، وقد تدخلها سوريا .. قد .. أقول قد تدخلها؟؟
كل كلام لا يقدم ولا يؤخر ولكن وقائع التاريخ هي التي تنفع.
يخضع تقدم التاريخ لثلاث قوانين تمسك بمفاصل حركته:
ـ أن الأنفع يثبت.
ـ وأن الكون لم ينته خلقه بعد؛ والله يزيد في الخلق مايشاء. كما يخلق مالا تعلمون.
ـ وأن ما بشر به الأنبياء نظرياً يقدم التاريخ الأقنية والبنى العملية لترسيخه، ومنها فكرة لا إكراه في الدين، بمعنى رفع الاضطهاد الإيديولوجي والعرقي والجنسي، وما فعله حلف الناتو في كوسوفو وليبيا يمثل في قسم منه هذا التطور في رفع الإكراه عن البشر، كمنحى لا فرار منه أمام حركة التاريخ.
وقد يحصل نفس الشيء في سوريا مع اشتداد آلة الذبح الأسدية.
تنطبق قوانين التاريخ على كل شيء من السحب الهيدروجينية إلى الخلق الآخر الإنسان .
اعتبر القرآن أن الزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
ويعتبر المؤرخ البريطاني توينبي أن قوانين التاريخ لا تمثل دورة رتيبة؛ بل هي دورة عجلة محمولة على محور، العجلة تعيد إنتاج دورتها، والمحور ينقل القدر الإنساني طبقاً عن طبق إلى ما هو خير وأبقى، وعندما بنى إبراهيم الكعبة كنموذج مصغَّر للسلام الكوني كان في صدد نقل التجربة وتوسيعها لتتحول الأرض إلى كعبة كبيرة، وتمط الأشهر الحُرم لتغطي كل السنة فيصبح العالم كله حراماً لا يسفك فيه دم الإنسان، ومع فكرة قربان الكبش توقف ذبح الإنسان وتقديمه كقربان على أية صورة وتحت إي شعار، ويتم تأميم الحروب في الأرض؛ فعلى الأرض السلام وتعمر القلوب بالمسرة كما جاء في الإنجيل..
راهنت الملائكة على الإنسان أنه مخرب يسفك الدماء ولكن (علم الله) فيه يتحقق أنه يمشي نحو الأفضل.
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال: إني أعلم مالا تعلمون!
النافع والأفضل يتقدم ويتوسع ويتعمق كشجرة لا تكف عن النمو، والفيزياء الحديثة كشفت عن الانفجار العظيم والتمدد الكوني في زيادة للكون لا تعرف التوقف، والإكراه الإيديولوجي (ومنه البعثي العبثي والشيوعي والنازي والفاشي) والعرقي كمرض كريه يتقلص من العالم؛ فالاتحاد السوفيتي انهار لأنه بني على الدمج القسري، وما حصل ليوغسلافيا كرر نفس الخطأ التاريخي أنها مجمدة في مربع الزمن عند عام 1389 م في معركة امسل فيلد وشبح الملك لا زار خارج إحداثيات العصر فكانت نهاية ميلوسوفيتش موتة في سجن لاهاي بالشهقة والخنقة واعتقال المجرمين راتوك ميلاديتش، ورادوفان كاراديتش متخفيا بلحية هائلة!
وكذلك انتهى القذافي مقذوفا وصدام مصدوما مشنوقا.
وكذلك ستكون نهاية طبيب العيون الأعمى عن صيرورة التاريخ.، التطور هو دوما نحو الأفضل وهو القانون الذي يحكم التاريخ بإضافة ملاحظتين: أنه مخطط يتعرض لهزات في بعض المراحل، إلى درجة التراجع في بعض المناطق، كما أنه يتقدم برجلين بين التقدم التكنولوجي والتطور الإنساني، بادئاً بالقدم الأولى.
البيولوجيا والاقتصاد وعلم الاجتماع يقدم لنا ثلاث نماذج لاهتزاز المخططات؛ فالجسم في كل لحظة هو في شان، في تأرجح لكمية السكر في الدم مع بذل الجهد، وارتفاع الكورتيزون مع نشاط النهار، ونوم المثانة في الليل.
واكتشف (رافي باترا) الاقتصادي الأمريكي أزمة الدورة الرأسمالية كل ستين عاماً.
وأفادنا ابن خلدون بدورة الدولة بثلاث أجيال في 120 سنة.
المخطط يهتز، ولكنه يحافظ على معدل معين، باختلاف درجة الميل بين البيولوجيا والسسيولوجيا؛ ففي الوقت الذي يمضي البدن باتجاه التآكل والتفسخ حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ فإن مخطط الجنس البشري يميل نحو الأحسن باضطراد؛ فأما التقدم التكنولوجي فهو واضح ولكن الغموض يعتري آليات التطور الثقافي، فهل التقدم إنساني أيضاً؟
التكنولوجيا والفكر يتقدم بإبداع الأفراد، ويلحقه التطور الإنساني بتلقيح المجتمع وحمله للأفكار الجديدة، في دورة متقابلة.
هذا ماحصل من تطوير نقل السلطة السلمي، وحرية الاعتقاد، وكرامة المرأة، وتأميم الحروب.
ويدخل تحته الربيع العربي كقانون سسيولوجي فنرى فرار بن علي وتقدم المرزوقي يؤدي قسم رئيس الجمهورية في ديسمبر 2011م.
حين نفهم (مشروع الأنبياء) في حل المشكلة الإنسانية يمكن فهم الأحداث على ضوئها بشكل مريح، والشيء الأساسي الذي نادوا به مشروع (لا إكراه في الدين) دخولا وخروجا؛ فمع الإكراه لا يعتبر المؤمن مؤمنا ولا الكافر كافرا، بسبب بسيط أن الإيمان والكفر، والقناعة والرفض، تقوم على آليات دماغية، تولدها قناعة الأفكار في الجهاز العصبي وليس السوط والعضلات.
يرى (توينبي) أن الحضارات تنطلق بالإبداع على يد أقلية تتبعها الأكثرية بآلية المحاكاة على أنغام مزمار الراعي، وأنها تنهار عندما تتحول إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بسوط (الإكراه).
لا إكراه في الدين وحرية الاعتقاد إيمانا وتركا خروجا ودخولا.
حرية التعبير والتجمع عليه والدعوة له بشر به الأنبياء كمشروع إنساني تحول إلى بند راسخ في دساتير العالم كما في الإعلان الكندي عام 1982 م للحقوق والحريات الأساسية، ولعل تشديد الغرب على منع إعدام اوجالان في تركيا هو تحت هذا البند.
المثير الآن في حركة التاريخ أن الديمقراطيات الغربية بدأت في التحرك لنقل مفهوم رفع الإكراه من حزامها إلى خارجها، وجاء الجديد على صورتين: الانتقال من تحريم الإيديولوجي المذهبي إلى العرقي وهو أخطر، كما أشارت مجلة الشبيجل الألمانية في مقابلتها مع المؤرخ الأمريكي (نورمان نايمارك) فأهل القدس في مواجهة الرومان والعرب في الأندلس يمكن أن يفروا أو يغيروا معتقداتهم، واليوم لا وزر أمام آلة التطهير العرقي الجهنمية كما رأينا على يد الصرب في كوسوفو أو النازيين في آوسشفيتس.
وثانياً ليس تطبيقه داخلياً بل محاولة منعه خارج المنظومة الديموقراطية، مما يذكر بالجهاد الإسلامي.
الجهاد في الإسلام لم يشرع لنشر الفكر بل لرفع الظلم والإكراه والفتنة عن (الإنسان) أينما كان ودان، وبذلك يصبح الجهاد دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الاضطهاد والإكراه عن البشر وفي صورتين بوجه التحديد: الإخراج من الديار والعقيدة بالقوة المسلحة، جمعتها نصف آية تبرر استخدام القوة المسلحة (أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).
لا يعني هذا أن حلف الناتو يمارس الجهاد، ولكن تطور التاريخ يجبر القوى العظمى ومنها أمريكا التي تمثل القطب الواحد أن تمنع الإكراه، وتلتمس مبررات التدخل المسلح بما يتوافق مع مصلحتها.
مثلا بقدر هجمة الناتو التي كانت على صربيا، بقدر تفريغ الصرب كوسوفو من الألبان، لتولد دولة إسرائيلية جديدة بقدس اسمها كوسوفو من نفس عينة المرض العرقي الكريه. ونجح الرهان على إعادتهم كما أعيد الكويتيين بعد اجتياح صدام في 2 أوجست 1990م.
اعتبر (نعوم تشومسكي) السياسي وعالم الألسنيات الأمريكي أن غرام أمريكا بالعدالة كاذب، يشهد له سكوتها عن جرائم بحجم الجبال في كولومبيا ولاوس، واعتبر الصحافي البريطاني (روبرت فيسك) أن الذكرى الخمسينية لولادة الناتو كانت جديرة باستعراض القوة.
واستشهد (ادوارد سعيد) في مقالة له بفكرة كيسنجر عن استخدام القوة في الهند الصينية إلى جرعتها القصوى كي لا تدع أدنى مجال للشك عند الخصم أنه يمكن المضي فيها إلى حدود اللاعقلانية.
ويبقى ميزان الغرب مترنحاً في تعامله مع قضية فلسطين فتنطفئ كل النخوة والأريحية الديموقراطية دفعة واحدة مع العنصرية الإسرائيلية، وتظهر إنسانيتهم في تمزيق المنطقة الشيوعية؛ لأن ضرب العراق كان من خوف مقبل، أما ضرب الصرب فكان من شماتة وأحقاد الماضي.
وفي هذا الضوء يجب فهم ما حدث في ليبيا ويمكن أن يتكرر في سوريا. ينبغي أن نفهم هذا ولابد من النظرة الكلية لفهم الأحداث؛ فالأكراد وسواهم تستخدمهم أمريكا أحيانا ليس لصالحهم في كل مرة ولصالحها دوماً.
ونحن حين نفهم اتجاه التاريخ ونربط الأحداث ببعضها فنعلم أن إيقاف المذابح عمل إنساني ويجب أن يتم في كل مكان من البوسنة إلى رواندا إلى ليبيا وسوريا.
وبمجرد أن نعجز عن ربط الأحداث ببعضها تختلط علينا الأوراق.
مع هذا فإن قانون التاريخ سيجبر قوى الغرب في المستقبل بتعامل أفضل مع القضية بقدر نضج فكرة اللا إكراه عالمياً.
ولأجل حل مشكلات العالم من دون هذه المرجعية فإن كل الأحداث التي يمكن أن تتخذ وسيلة لكسب المصداقية لن تحمل مصداقية حقيقة وإنما مزيد من ترسيخ الامتيازات وإبراز المنطق الفرعوني.
من هنا لابد من استحضار ضرورة إعطاء مصداقية للأمم المتحدة لمشاركة فعالة من قبل العالم جميعاً حتى يكون القرار عالمياً، بتشكيل برلمان دولي له قدرة التنفيذ.
نحن ننسى مصدر الإعاقة العالمية ولا تشفع التحسينات الجزئية في بعض أنحاء العالم في تغيير البانوراما العامة.
لابد من السعي لصنع أمم متحدة من نوع جديد كما في الدول الديموقراطية التي يحكمها القانون وليس الفيتو.
الديمقراطيات الغربية استطاعت أن تحقق العدل الداخلي والرفاهية والأمن لإفرادها إلى حد كبير كما أنها نجحت في آلية نقل السلطة السلمي فأصبح إقناع الناس ولو بالتحايل سبيل التغيير وليس الجيش والاستخبارات، ولكن مشكلة الغرب أنه تحول إلى ديكتاتور في العالم، في مقابل الديموقراطية الداخلية في تناقض محير.
نحن تزعجنا التناقضات الثانوية وننسى التناقض الأساسي العالمي الذي يقوده رهط مفسدون في الأرض.
الأمم المتحدة ومجلس الأمن بتركيبة الفيتو لم تعد مناسبة للعالم الجديد، وينبغي أن يكون هناك تمرد على الأمم المتحدة التي ليس لها مصداقية تعيق نمو العالم، ومجلس الأمن يجب أن يلغى، وليس بالمطالبة بتوسيع كراسيه ومدها إلى اليابان وألمانيا وآخرين يتلمظون لمقاعد الامتيازات، والأمم المتحدة على ما يبدو تحتضر الآن، والوحدة الأوربية مولود جديد في تاريخ الإنسان، ويمكن أن تكون نواة لوحدة عالمية، ولكن الأمم المتحدة لا يمكن أن تكون نواة لوحدة عالمية.
الوحدة الأوربية حاولها من قبل نابليون وهتلر وكلاهما وصل إلى عكا وستالينغراد؛ فأما الأول فقضى نحبه منفياً مسموما في جزيرة، وأما الثاني فمات منتحراً.
وتتحد أوربا اليوم ليس تحت شعار ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع. وهي كلمة السواء التي خاطب بها محمد ص هرقل قبل 1400 سنة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم فإن توليتم فإن عليكم إثم الاريسيين أي لعنة الشعوب.
روسيا اليوم تعطل مجلس الأمن في مذابح سوريا، ومجلس الأمن معطل بحق الفيتو، وعلى الشعب السوري دفع فاتورة باهظة للحرية. مثل شراء السمك في الصحراء.
ينقل نعوم تشومسكي في أول كتابه قراصنة وأباطرة أن الاسكندر ألقى القبض على قرصان فراح يقرِّعه: كيف سولت لك نفسك إزعاج الناس في البحر؟
أجاب إنني أزعج الناس في بحر فأسمى قرصاناً؟ ولكنك تزعج العالم كله فتصبح إمبراطورا.