فكرة الطفرة مأخوذة من علم البيولوجيا ولكن يمكن نقلها إلى علم الاجتماع. كان أول من انتبه لها في علم البيولوجيا السيدة (بابارا مك كلينتوك) حين اعتبرت ان الجينات ليست حبات لؤلؤ في جيد حسناء بل تنتقل من مكان لآخر، وهذا يدخل على فكرة تطور الإنسان وأنه خلق خلقا من بعد خلق وطورا بعد طور.
في علم الفيزياء تواجهنا ظاهرتان من هذا النوع الكتلة الحرجة في السلاح الذري، والتراكم الكمي يقود إلى انقلاب نوعي كما في تحول الماء عند درجة حرارة معينة إلى شكل جديد بين الكتلة القاسية والغاز.
لعل ابن خلدون أيضا أشار لهذا في المقدمة عن اتصال الكائنات بخط ينتهي على حلقات كل نهاية حلقة تتطور إلى بداية الحلقة التي بعدها من الذرة مرورا بشجرة النخيل والحلزون ثم القرد والإنسان.
يمكن اعتبار هذا القانون ساري المفعول في عالم الفكر كما في طفرة سقراط الذي كان فلتة عقلية وطفرة في التفكير. لم يكن له مدرسة ولكن من فكره انبثقت عشرات المدارس من الأبيقوريين والسفطائيين بل والكلبيين من اختار عيشة الكلاب.
يمكن أن نرى هذا في مستويات الوجود كلها من الذرة إلى المجرة ظاهرة الطفرة حين تتراكم الأمور حتى تصل إلى الحافة الحرجة أو الكتلة الحرجة أو الدرجة الحرجة أو الحالة الحرجة فإذا وصلتها تغيرت الحالة نوعيا.
يصدق هذا حتى في عالم الاقتصاد فيما يعرف بظاهرة فرقعة البالون حين تصعد الأسهم في السماء علوا حتى حافة معينة، ثم تتفرقع فتهوي مثل الطير بطلقة، وينتحر معها بعض الجشعين الذين ربطوا حياتهم بالمال كما جاء في فيلم قابيل وهابيل.
هذا ماسيحدث في الثورة السورية حين يتفكك النظام بالتدريج ثم يصل الحافة الحرجة فيهوي صريعا للجنب.
المشكلة في علم الفيزياء والكيمياء أن الأمور يمكن ضبطها بقوانين نوعية وهي ليست كذلك في علم النفس الاجتماعي.
عني القرآن بعلم النفس الاجتماعي أكثر من علمي الفيزياء والكيمياء فحين قال أن لو أرادوا أن يستفزوا النبي (إخراجه) لن يلبثوا خلافه إلا قليلا.
الماء بتعريضه لدرجة الحرارة التدريجي لايغير طبيعته إلا عند حافتين صعودا وهبوطا، فإذا وصل الدرجة الحرجة تغيرت طبيعته، فيجمد ويزداد حجمه عند الدرجة صفر. أو يتبخر غازا في الهواء عند درجة الغليان. سفينة الجبار (التيتانيك) كانت تسبح في الماء ومن أغرقها الماء حين تحول إلى جبل جليدي أليس عجيبا هذه الجدلية المحيرة والتناقض المتنافر؟.
ينطبق هذا أيضا على تحول الحديد إلى سائل بل ربما أبخرة فيرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران؟ بل يمتد الجدل في تحول الذرات بقفز البروتونات كما في تحول الزئبق والذهب. أو في ترابط حرج بين الذرات كما في تحول الفحم إلى ألماس.
كذلك حالة الثورات في المجتمع، والثورة السورية لاتخرج عن هذا القانون. الناس يستعجلون والله يرقب الكون فلا تأخذه سنة ولانوم. البشر يشتهون السلطة والله يريد دفع الكون نحو الأفضل فيحترق الناس في نار المحنة والمعاناة والكبد فيخرج شعب جديد مصهور مثل الحديد في لهب النيران.
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. إن قصة المحنة والفرز والغربلة جاءت في قصة داوود وطالوت وجالوت فتغربل من المائة فلم يبق إلا واحد. وهو ماصدقه الحديث تجدون الناس معادن. والناس كأبل مائة لاتكاد تجد فيها راحلة، وكذلك معادن الناس في الثورة فتختلط الأمور وينفرز الناس ويجب أن تتحرر الثورة من المنافقين وتعرف أعداءها جيدا.
آلة القتل البعثية مستمرة وعدد الشهداء يزداد وحلقات النيران تتاعظم ويتغلف الأفق بدخان اللهب من حركة الدبابات والمجنزرات والمحنة والدم والثورة تمتد عابرة الطوائف والمدن، وهي جملة أعجبتني من عزمي بشارة في حديثه لقناة الجزيرة.
إن الرجل يتكلم وجدانه وينبض مع نبض الثورة. إنه ليس مسلم ولكنه في الوزن أفضل وأوزن من مئات من الشيوخ المنافقين والقساوسة الساكتين الملتحمين مع النظام، كما نفض ميشيل كيلو يده من مؤسسة الدين والديانة وخاطب العلمانيين المسيحيين بالالتحاق بالثورة وهو مقوف لن ينساه له الشعب السوري. موقف المؤسسة الدينية ليس جديدا فهو يكرر منظر السنهدرين الذي حكم يسوع بالصلب. إنها جدلية رجل الدين ساحر فرعون القديم والثوار. محمد ص اتهم بأنه صابيء عن دين قومه، ويسوع حكم بالصلب، وموسى اتخذ قومه عجل السامري إلها فنسي.
في البيولوجيا إذا وصل الضغط الدموي إلى حافة متدنية تهاوى الجسم فلم يقدر على الوقوف، وإذا أصيب بحالة انخفاض حاد في درجة الحرارة (Hypothermia) تعرض القلب للرجفان فمات. وكذلك تسارع النبض ورعشة القلب. أو نقص الكالسيوم والبوتاسيوم وزيادته فيتوقف القلب في حالة الانقباض أو الاسترخاء. وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
مايصلح وينطبق على الماء والذرة يصلح في عالم النفس فيفيض الدمع حين تصل الروح إلى حالة التاثر الحرج فترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وتراهم يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
السؤال ياترى اين ستكون حافة الثورة السورية فيسقط عندها النظام. هل بالإفلاس عند عدم القدرة على الدفع للقتلة؟ هل بالتفكك الداخلي كما قتل الرفاق في عدن بعضهم بعضا وصفى صدام الرفاق بيديه فيقتل بعضهم بعضا؟ أم الضغط الخارجي فينعصر مثل ذنب القرد في شق خشبة النجار كما جاء في كليلة ودمنة فيصيح ويضربه النجار على عبثه؟ أم انتفاضة عارمة في حلب ودمشق حين يدخل الناس من التجار الحلبية والشامية بعد تبدد المصالح وتوقف التجارات في دين الله مع نصر الله والفتح فنرى منظر تشاوسسكو الذي (عفطت) له الجماهير ولحقته والسكورتات في المخابيء تحت أرضية فقضي أمرهم في أيام قي صاعقة عاد وثمود. صديق قديم لي في مونتريال اعترف أنه لايشارك في المظاهرات لأن عنده مصالح بمليون ونصف دولار في حمص وماحولها. سورة كاملة نزلت بعنوان التوبة لمن لم يتوب فالناس مواقف ويجب أن يحدد الإنسان موقفه يوم الزلزلة وليس مثل اللحظات الحاسمات كشفا لمعادن الناس. يجب أن تعرف الثورة خصومها ومنافقيها وروادها الانتحاريون.
مظاهرات جمعة الصبر والثبات يوم 26 أوجست والناس تستعد لليلة القدر كان الناس يلعنون الأب والابن علنا جهارا فلم يبق ثمة هيبة للنظام والرئيس الدجال المزور. في الوقت الذي كان الدجال المزور يحاضر في علماء الزور المزورين من المؤسسة الدينية، بعمائم وقلانس ولفات وطرابيش عصملية من مؤسسة العصر البرجي من حكم المماليك البعثية، بخرابيط من الكلام زخرف القول غرورا ولو شاء ربك مافعلوه فذرهم ومايفترون. انظر كيف كذبوا على أنفسهم. لقد أرسل لي صحفي مزور أخبارا عن حماة يعلم أنه يكذب ولكن هذه هي جدلية الإنسان. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
هناك من يقسم باللات والعزى أن السماء لو انطبقت على الأرض ماهوى ولا سقط النظام السوري؛ فهو أبدي سرمدي أزلي مثل كل الأصنام الذين أعناقهم لها خاضعين.
عجيب ماكنا نرى من ترداد شعارات القائد الأبدي، ولا أبدية إلا لله الحي القيوم ونحن بشر نموت ويعترينا مايعتري كل الكائنات من الألم والضعف والشيخوخة والمرض ثم يلتهمنا الموت كوجبة لذيذة فلا تسمع لنا ركزا.
في سوريا الأسد أينما مشيت وحللت رأيت صورة القائد الأبدي. وفي موت الأب تحولت دمشق إلى حلة غربان سوداء والويل لمن لايغطي زجاج السيارة الخلفي ويخالف قوانين المرور العالمية بصورة القائد الأبدي الذي التهمه الموت مثل أي حشرة.
كنت في خان أرنبة أراجع فاجتمعت بطبيت رابني أمره يترنح ولايركز قال لي مرافقي زيد إنه سكران كالعادة. لكن ما لفت نظري في ذلك المستوصف الصغير القميء صور اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى عفوا صور العائلة الأسدية. عددت الصور كانت سبع عشرة بالتمام والكمال. حجم الصورة ربما بلغ بالأمتار المربعة ومن النوع الصقيل والثمين تؤخذ من آخر قرش من جيب مواطن مفلس يلبس الأسمال.
تذكرت قول الصادق النيهوم الليبي الذي لم تكتحل عيناه بسقوط الديكتاتور رقم ثلاثة! إنها ميزانية الدول الفقيرة تنفق على المخابرات وتأليه الزعيم وهي محنة تذكر بامتلاء فروة الثعلب بالبراغيث.
ظننا مع تهاوي المهرج الليبي أن الأمر قد يطول ولكنه يخضع لقانون (الطفرة) حين تتراكم الأحداث إلى الحد الحرج فلا يتحمل فرط الضغط فيتهاوى مثل صنم ثقيل.
القرآن يتحدث عن الديكتاتورية والديموقراطية بتصوير شجرتين من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة فأما الأولى فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأما الخبيثة فتجتث من فوق الأرض مالها من قرار.
إذا أردنا ضغط (قانون الطفرة) في هذه المجموعة المتماسكة من عتبات الوجود ومستوياته انتهينا إلى أن كل مستوى وحقل له حده الحرج.
وأنا استفدت هذه الفكرة من كتاب سجناء العالم الذري لاوبنهايمر حين تحدث عن الكتلة الحرجة في القنبلة النووية وأظن أنها في حدود 60 كيلو من مادة البلوتونيوم وربما اقل من عشرين كيلو لليورانيوم 235 فكما نعلم السلاح الذري هو نوعان من قنبلة الرجل السمين البلوتونيوم والولد الصغير من اليورانيوم المخصب 235 الذي تتلمظ له إيران حاليا لامتلاكه مثل أصنام بني إسرائيل حين قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
والسبب بسيط فالسلاح النووي نادي أغلقه أصحابه في الوقت الذي تدخله إيران، وكما يقول فؤاد زكريا في كتابه خطاب إلى العقل العربي أنه سلاح ليس للاستخدام بحال. فلماذا يُصَّنع إذن؟
الكتلة الحرجة في السلاح الذري، والدرجة الحرجة في غليان الماء، والاحتشاد العاطفي في العتبة الحرجة تدفع الدموع في المآقي، وكذلك التوتر الاجتماعي حين يصل الحافة الحرجة ينفجر.
وكذلك كان قدر العالم العربي الذي يغلي في طنجرة واحدة فانفجر.
كان بإمكان القيادة السورية التقاط النبض الخفي للثورة، ولكنها تتمتع بعمى تاريخي بامتياز، ومازالت تظن أن اغتصاب المرأة يجعلها زوجة شرعية.
إن الفرق بسيط وكبير بين الزنا والاغتصاب والزواج فكله علاقة جنسية وكله يخرج منه الجنين بدون أن يعرف عن أصل العلاقة شيئا فالحيوان المنوي ليس شيعيا وعلويا وخلفيا وسلفيا وسنيا وكاثوليكيا بل سائل يمشي بقانون الله وحيث يجتمع الحيوان المنوي الصغير بالبيضة لقحها ولم يسال كيف تمت العملية.
ولكن المجتمع الإنساني غير مجتمع قرود البابون وذكور النحل والسحالي والقطط والكلاب والببر وجراد الحقل. ومنذ أن بدأت قصة الشجرة المرحة في الشرائع دخل البشر حالة القانون فكان الزواج والسفاح والزنا والاغتصاب.
الاتصال الجنسي سرا او رضا أو اغتصابا جريمة كله اتصال ولكن يفرق بين الأمرين مايفرق بين الجراحة المعقمة في غرف العمليات وتقطيع اللحم عند الجزار.
النظام السوري اغتصب الدولة واختطف الأمة بأكملها لمدة نصف قرن فكيف كان عذاب.
هناك أفكار خطيرة تروج وتسري هذه الأيام عن عسكرة الثورة، وهي صادرة من جاهل بعلم الاجتماع، أو جاسوس لنظام البعث، أو إيديولوجي لايفهم سطور القرآن بأكثر من مرور حشرة العت فوق الصفحات.
وفي القرآن أن من يحمل الكتاب على ظهره قد يكون الحمار الذي يحمل أسفارا بئس مثل القوم. ومن يرفع صوته لايعني بالضروة قوة الحجة وإن أنكر الاصوات لصوت الحمير.
يجب الاستمرار في تراكم العمل السلمي إلى حين ولادة الطفرة.
بكل أسف ليس عندنا من علماء الاجتماع من يقولون أين هي الحافة الحرجة للغليان الشعبي وسقوط النظام. ولكن بالتأكيد ستصل الثورة إلى الحافة الحرجة التي يسقط بعدها. إنه مجنون حاليا يقطع حنجرة القاشوش المغني والأعضاء التناسلية عند طفل مثل حمزة الخطيب ثم يكسر ذراع فرزات رسام الكاريكاتور. كلها في تعبيرات هستيرية عن نظام فقد عقله فهو يترنح.
إن قصة تحطيم أداة الفن من حنجرة وذراع تذكرني بقصة سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية حين كتب تحت صورة كاريكاتور للأسد الكبير لماذا يكذب النظام.
خلال فترة قصيرة أغروه بالقدوم من لندن إلى لبنان لحضور جنازة أمه فأمسكوا به وكسروا أصابعه التي بها يكتب قبل أن يقتلوه ويلحقوه بأمه في دفن مشترك وتنشر المجلة عددا باللون الأسود.
هذا يذكرني أيضا بفلم الهلوكوست عن ذلك الفنان الذي حطموا أصابعه حتى لايرسم فرسم آخر صورة ومات فوقها وقوات الحلفاء تحرر المعتقلين من أسر النازيين.
سوريا في يد النازية البعثية تقلع الحناجر وتكسر الأصابع وتقطع الأعضاء التناسلية فليس من محرم عندها.