علي الرشيد

منذ أن اندلعت شرارة الثورة السورية السلمية قبل أكثر من عشرة شهور والنظام ما فتئ يتحدث عن مشاريع وهمية في الإصلاح السياسي والحوار والمصالحة الوطنية وتشكيل لجان تحقيق في أحداث مؤسفة اتهم فيها رموز من أركان أجهزة أمنية، وإصدار القوانين والمراسيم ومنها مرسوم العفو عما قيل إنها جرائم ارتكبت على خلفية الأحداث الجارية منذ 15 / 3 / 2011 وحتى صدوره مطلع هذا الأسبوع.
لقد تعود المواطنون على أن إصدار مثل هذه القوانين والمراسيم يزيد أوضاعهم سوءا، وفي أحسن الأحوال لن تكون سوى مظهر من مظاهر الخداع ومادة للاستهلاك الإعلامي لإيهام الخارج بأن ثمة تغييرا يحصل، ومحاولة نصب أفخاخ أمنية في الداخل.
فعندما أعلن النظام عن رفع حالة الطوارئ ازدادت وتيرة الاعتقالات وانتشر الجيش ومعداته الثقيلة في المدن وارتفع عدد الشهداء والجرحى، حتى تمنى الناس أن يعود عهد ما قبل رفع الحالة لأنها أخف الضررين وأرحم بهم وبحراك ثورتهم.
ومنذ أن تفجرت أحداث درعا ومطالبة أهلها بالتحقيق في تداعياتها وبخاصة اتهام مسؤول أمني رفيع باعتقال مجموعة من الأطفال، وإهانة أهليهم ووجهاء المدينة، لم يحصل شيء يذكر ولم تخلص اللجنة التي أعلن عن تشكيلها إلى أي نتائج، وبقيت الأمور معلّقة، ونقل المتهم فيها إلى منصب مماثل بمحافظة أخرى.
ورغم الحديث عن صدور قانون جديد للإعلام فلا يزال منع دخول وتغطية أجهزة إعلام عربية مرموقة وكبيرة قائم لم يتغير أو يتزحزح بذريعة اتهامها بالتحريض والفتنة، ويترك المجال فقط للإعلام الرسمي ولأجهزة الإعلام الدعائية التي تدور بفلكه، أو أجهزة إعلام خارجية موالية له سياسيا فقط لنقل ما يريد نقله أو إيصال روايته فحسب، لأن النظام يريد أن تكون الحقائق على الأرض غائبة مغيبة.
وعلى نحو متصل فرغم إطلاق النظام دعوات للحوار فإنها فشلت وعجز النظام حتى على حمل مقربين إليه للمشاركة فيها، لأن كل شروط الحوار غير متوفرة، وأرضية ملعبه غير ممهدة على الإطلاق، فكيف يجري حوار في ظل القمع والاعتقال والقتل ووجود الآليات العسكرية بالمدن والتعامل الفوقي وفرض الإملاءات.. وفي خطاب الرئيس السوري الأخير جرى حديث عن حوار ومصالحة وطنية، لكنه لم يبد مقنعا لأحد لأن نبرة quot; الضرب بيد من حديدquot; والتهديد والوعيد والحل الأمني كانت هي السائدة، ليس في التعامل مع العصابات المسلحة ـ على حسب لغة النظام ومصطلحاته ـ بل حتى مع من يثيرون الفوضى، وهي إشارة واضحة لأصحاب المظاهرات السلمية والاعتصامات المدنية، لذا نزل الشوارع بعد الخطاب وواصلوا نضالهم السلمي غير عابئين بما جاء فيه.
ومن استمع إلى إحدى الشخصيات الدينية التي تحدثت على لقاءات علماء مدينة حمص ـ وربما غيرهم ـ بالرئيس وما دار فيها يستطيع أن يفهم بالمجمل حقيقة هذه الوعود وطبيعة هذه الإصلاحات للمؤسسة الرسمية ومدى صدقيتها وهو ما أدى بالمجمل إلى عدم ثقة الشعب والشارع بالنظام وعدم الاقتناع بجديته بعد أن جرب ذلك مرات ومرات.
وعودة إلى العفو الرئاسي الأخير عمن ارتكب، فللعلم فإنه ثالث عفو خلال عشرة أشهر، وفي المرات الماضية لم يفض إلا إلى إفراجات نادرة ومحدودة على المعارضين والناشطين السوريين والمنخرطين في حراك الثورة، وجل من أفرج عنهم إما أنهم من المحكومين الجنائيين، والمجرمين وأصحاب السوابق، حيث استفاد النظام من الأخيرين ـ أو كثير منهم ـ لتجنيدهم ضمن فرق quot;الشبيحةquot; التي يستخدمهم في مواجهة الثورة والتصدي لها، أو ممن اعتقلوا خطأ بسبب حالة الفوضى، ومن ثمّ فإن مثل هذه المراسيم الرئاسية تفصّل بحسب المقاسات التي يريدها، ومن يريد أن تشملهم.
ما يفعله النظام لا يتعدى وضع مساحيق زينة على وجه عجوز شمطاء، فهو ـ كما أوردت الأنباء ـ يريد الإفراج عن 2000 سجين بحضور مراقبي الجامعة ليرسل رسائل كاذبة خاطئة للجامعة بأنه ينفذ بنود الاتفاق معها، كما أنه محاولة بائسة لحمل بعض العسكريين المنشقين أو النشطاء لتسليم أنفسهم إليه، وإعلان التوبة، وبالتالي شقّ الصف والتخفيف من أوار الزخم الثوري المتزايد بحسب تخيلاته، ولو كان النظام صادقا في مراسيمه وادعاءاته لقام بالإعلان عن عدد المساجين لديه، إذ إن أعدادهم تقدّر بعشرات الآلاف، ولحدد أماكن تواجدهم، والتهم الموجهة إليهم، ثم حولهم إلى محكمة عادلة.. لكن أيا من ذلك غير قائم البتة، فلا أحد يعرف عدد سجناء الرأي والتظاهر السلمي على وجه الدقة، ولا أحد يستطيع أماكن تواجدهم بدقة، كما أنه لم يسمح لأي منظمة إنسانية أو حقوقية بزيارتهم، أو الاطلاع على أوضاعهم المزرية وظروف وأماكن احتجازهم، وما يتعرضون له من تعذيب وإهانات. وعندما اقترب موعد وصول مفتشي الجامعة جرى الحديث عن نقلهم واحتجازهم في أماكن غير معروفة، قيل أن بينها من حاويات في عرض البحر. وهذا أمر اعتاد عليه النظام منذ عقود، فهناك من معتقلي أحداث الثمانينيات ـ وغيرها ـ مازال مجهول المصير حتى الآن.
وحتى لو سلّمنا أن النظام قام بإطلاق سراح ألفي معتقل، فكم نسبة هذا العدد الهزيل مقابل عشرات الآلاف الذين لا يزالون وراء القضبان، والذين ينتظرون دورهم في حملات اعتقالات أجهزته الأمنية المتواصلة.
والأهم من هذا وذاك هو: مَنْ يعفو عن مَنْ ـ كما قالت المعارضة ـ هل النظام الذي ولغت يداه في الدماء والتعذيب أم الشعب (الضحية).. سؤال في غاية الأهمية فهل يعي النظام حقيقة مراسيمه التي يصدرها بلا لون ولا طعم ولا رائحة؟!.