وحيد عبد المجيد

من مصر إلى المغرب، يبدو أن اكتمال مشهد صعود الإسلاميين في الجناح الغربي للعالم العربي يتوقف على ما ستسفر عنه التفاعلات الداخلية في الجزائر التي يصر رئيسها بوتفليقة على أنها استثناء من quot;الربيع العربيquot;. وقد كرر هذا المعنى مرات كان آخرها في خطابه يوم 20 ديسمبر الماضي في افتتاح السنة القضائية الجديدة عندما قال إن الجزائر لن تكرر تجارب مرت بها من قبل، ويقصد quot;الحرب الأهليةquot; التي أعقبت صعود quot;الجبهة الإسلامية للإنقاذquot; انتخابياً عام 1991. وتنطوي إشارته إلى هذه التجربة على مغزى بالغ الأهمية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التي ستحدد مستقبل الجزائر وهل ستظل استثناءً بالفعل بعد فشل محاولات عدة لخلق حراك ثوري في الشارع منذ يناير 2011.

فلم تفلح جهود قادها شبان وشارك فيها بعض السياسيين لتنظيم احتجاجات شعبية بالتزامن مع ما حدث في تونس ثم مصر. وظلت الاستجابة لدعوات التظاهر والانتفاض محدودة. ولم تفعل مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر فعلها الثوري في تونس ومصر وليبيا. وبدت قدرة من يستخدمونها على الحشد والتعبئة ضعيفة على مدى أشهر. وباءت محاولاتهم لنقل ما يحدث في العالم الافتراضي إلى الواقع المعاش بالخسران. ولم تأت آخر هذه المحاولات، وهي quot;صفحة ثورة 17 سبتمبرquot; على quot;الفيس بوكquot;، بنتيجة، بل كانت الاستجابة إلى دعوة مؤسسيها للتظاهر في ذلك اليوم أقل من ذي قبل. وكان العنوان الصحفي الأكثر تعبيراً عن المشهد في ذلك اليوم هو quot;حضر الأمن... وغاب المحتجونquot;.

غير أن الاستنفار الأمني ليس هو العامل الرئيسي وراء عدم الاستجابة الشعبية لدعوات النزول إلى الشارع، بل عقدة الصدام التي أعقبت انتخابات 1991. فقد تركت هذه العقدة خوفاً دفيناً لدى جزائريين كثر يخشون تكرار الفتنة التي استمرت سنوات وراح ضحيتها عشرات الألوف.

لذلك لعب التخويف المستمر من تكرار الفتنة، عبر استعادة وسائل الإعلام الحكومية أحداثها، الدور الرئيسي في استبعاد حدوث تغيير في الجزائر وفق السيناريو التونسي المصري الذي يبدأ باحتجاجات تتنامى وتطيح رأس النظام وتمهد لانتخابات عامة يصعد من خلالها الإسلاميون إلى صدارة المشهد السياسي.

غير أن اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الربيع المقبل يثير السؤال عن إمكان صعود الإسلاميين في الجزائر عبر تكرار السيناريو المغربي الذي اعتلى فيه quot;حزب العدالة والتنميةquot; الهرم السياسي، بدون ثورة، وإن بنسبة أقل مقارنة بتونس ومصر.

وربما يعود اطمئنان القادة الجزائريين إلى أن بلدهم سيظل استثناء، وبالتالي يبقى حاجزاً أمام اكتمال شريط الصعود الإسلامي في شمال أفريقيا، إلى أن السيناريو المغربي ليس بعيداً عن تأثير عقدة الأزمة التي حدثت نتيجة انتخابات وليس بسبب تظاهرات أو احتجاجات شعبية. فقد بدأت تلك الأزمة بفوز quot;الجبهة الإسلامية للإنقاذquot; بالجولة الأولى في أول انتخابات برلمانية تعددية في الجزائر، في 26 ديسمبر 1991، وحصولها على 188 مقعداً، في ظل توقعات أكدت نيلها معظم ما بقي من مقاعد في الجولة الثانية. فقد تدخل الجيش بكل ثقله وأرغم الرئيس بن جديد على الاستقالة قبل أيام من جولة الحسم، تحت شعار quot;إنقاذ الجمهورية من الظلامية والتخلفquot;.

وأدى ذلك إلى نشوب فتنة، إذ تشكلت جماعات مسلحة كرد فعل على إلغاء الانتخابات، وأريقت دماء عشرات الآلاف (نحو 150 ألفاً وفق التقدير الرسمي). وربما يكون السؤال المحوري اليوم، وقد بدأ الجزائريون في الاستعداد لانتخابات الربيع القادم، عما إذا كانت عشرون سنة كافية لإنهاء عقدة انتخابات 1991، خصوصاً وأن العالم تغير أكثر من مرة خلال هذين العقدين، وأن المنطقة العربية نفسها تتغير الآن بعد أن ظلت عصية على التطور، وأن التغيير الذي حدث بالفعل حتى الآن هو كله في الجوار الجزائري؟ وهل يمكن تصور أن قطاعاً يعتد به من الناخبين في الجزائر لا يزال أسير تلك العقدة؟ وإذا جاز افتراض ذلك، فهل يمكن إعادة إنتاج السيناريو الذي أعقب إجراء الجولة الأولى في انتخابات 1991، إذا فاز الإسلاميون بالأغلبية في انتخابات 2012 في ظروف مختلفة تماماً؟

هذا النوع من الأسئلة هو الأكثر صعوبة على الإطلاق، لأنه يتعلق بمزاج الناخبين الذي يتأثر بتجارب تاريخية مثلما يتفاعل مع التطورات الجارية حوله في آن معاً. وربما تؤدي تطورات quot;الربيع العربيquot; حول الجزائر إلى تحييد تأثير العقدة التاريخية لدى قطاع يُعتد به من الناخبين. وإذا صح ذلك ربما تتوقف الإجابة على السؤال عن إمكان استمرار الاستثناء الجزائري من عدمه على العملية الانتخابية المقبلة نفسها، وبالتالي على أداء القوى الإسلامية في المقام الأول وكذلك حزبا quot;جهة التحرير الوطنيquot; وquot;التجمع الوطني الديمقراطيquot; صاحبا الأغلبية في البرلمان الحالي، إذ يحوز الأول 136 والثاني 62 مقعداً من أصل 389.

فقد انفض أخيراً الائتلاف الثلاثي الذي جمع منذ 2004 هذين الحزبين والحزب الإسلامي الرئيسي الآن وهو quot;حركة مجتمع السلمquot; (حمس) الذي يعبر عن تيار quot;الإخوان المسلمينquot;. فقد انسحبت quot;حمسquot; من هذا الائتلاف في أول أيام العام الجاري، وهي تتطلع إلى حضور أكبر في الساحة السياسية وربما إلى تصدر المشهد في هذه الساحة. لذلك ازدادت انتقاداتها للنظام ورئيس الحكومة في الأشهر الأخيرة.

غير أنه قد لا يكون سهلاً أن تضاعف حركة quot;حمسquot; نصيبها الحالي في البرلمان (51 مقعداً) أكثر من مرة لكي تتصدر القوى السياسية، وخصوصاً في ظل الصعوبات التي تكتنف تحالفها مع الأحزاب والحركات الإسلامية. وهناك حزبان ممثلان في البرلمان لأحدهما خمسة مقاعد فقط (حركة النهضة) والثاني ثلاثة مقاعد (حركة الإصلاح الوطني). وثمة حزبان آخران تتوافر معطيات على سماح السلطات بتأسيسهما خلال الأسابيع المقبلة ضمن عدد من الأحزاب الأخرى، وهما quot;حزب جبهة التغيير الوطنيquot; المنشق عن حركة quot;حمسquot; ، وquot;حزب العدالة والتنميةquot; الذي يؤسسه الزعيم الإسلامي عبد الله جاب الله.

وإذا أدى ذلك إلى تفتيت quot;الصوت الإسلاميquot;، لن يكون ممكناً لحركة quot;حمسquot; اعتلاء قمة المشهد السياسي، وبالتالي تكرار quot;السيناريو المغربيquot;، إلا إذا فشلت quot;جبهة التحرير الوطنيquot; في معالجة الانقسام الذي يطل برأسه من داخلها منذ أشهر عندما أعلن عدد من كوادرها تأسيس جناح سموه quot;حركة الصحوة الوطنيةquot; للمطالبة باستقالة الأمين العام للجبهة (بلخادم)، فيما يواصل آخرون -يرفعون شعار تقويم وتأهيل quot;جبهة التحرير الوطنيquot;- حملاتهم على قيادة الجبهة.

وهكذا يبدو أن quot;الاستثناء الجزائريquot; يقترب من اختباره الأخير الذي سيكون له أثر بالغ في تشكيل صورة الجناح الغربي في العالم العربي لفترة طويلة قادمة.