هاشم صالح

حتى الأمس القريب كانوا يقولون لنا إن الإسلام هو الحل. والآن أصبحوا يرفعون شعارا آخر لا يقل عظمة وجبروتا: الديمقراطية هي الحل. يعتقد البعض أنه يكفي أن يودع الشعب أصواته في صناديق الاقتراع حتى تكون جميع المشاكل العربية قد حلت دفعة واحدة بضربة عصا سحرية. هل هذا صحيح يا ترى؟ أم أنه من السهل إلقاء الكلام على عواهنه؟

بعيد عني كل البعد التشكيك بأهمية تصويت الشعب بشكل حر لأول مرة في تاريخنا. وبعيد عني كل البعد التصفيق للأنظمة الشمولية الاستبدادية. أقول ذلك وبخاصة أن شعوبنا متعطشة لانتخابات نزيهة حرة بعد مهزلة انتخابات 99.99 في المائة المتكررة على مدار العقود والسنوات الصدئة. ولكن ينبغي أن ندخل في صلب الموضوع؛ لا نستطيع بعد الآن أن نكتفي بالشعارات الانفعالية. فقد تكون خادعة ومضللة، ثم بالأخص سطحية وتبسيطية أكثر من اللزوم. ثم الأخطر من ذلك: قد يرفع شعار الديمقراطية أو يختبئ خلفها ألد أعداء الحرية والديمقراطية، ينبغي العلم بأن الديمقراطية وحدها لا تكفي وإنما ينبغي أن يسبقها أو يرافقها على الأقل ما يدعى بالحكم الليبرالي الدستوري: أي دولة الحريات الفردية والعامة، دولة القانون والمؤسسات التي تعامل الجميع على قدم المساواة. قلت الجميع وليس فقط أبناء الأغلبية الدينية أو العرقية أو المذهبية.

والسؤال المطروح الآن هو التالي: ماذا نفعل إذا ما تمخضت صناديق الاقتراع عن أغلبيات إخوانية أصولية تكفر علنا أو سرا شرائح واسعة من الشعب يدعونها بالأقليات؟ هل نضحي بثلث الشعب لكي ينعم الثلثان بالحياة الرغيدة كما يقول شيوخ السلفية؟ علاوة على الأقليات أو الحشرات؛ هل نضحي بالتيارات الليبرالية التحديثية التي لا تفهم الدين بطريقة انغلاقية، قروسطية، قمعية، كالإخوان والسلفيين؟ ولحسن الحظ فإن هذه النخب الليبرالية المستنيرة تخترق كل الطوائف والمذاهب دون استثناء، وعليها تعول الآمال مستقبلا. هذا هو السؤال المرعب المطروح الآن بعد وصول إخواننا الأصوليين إلى السلطة في عدة دول عربية وبالأخص في الدولة الأكبر مصر. لذلك فإنني أشاطر المثقفين والفنانين المصريين قلقهم من laquo;تكفير التفكير والتضييق على حرية الإبداع والتعبيرraquo; بعد اكتساح الإخوان والسلفيين للانتخابات الأخيرة. بما أن الديمقراطية من أصل غربي لا عربي فليسمح لنا الإخوان بأن نرى كيف تشكل هذا النظام الأفضل في العالم أو الأقل سوءا بحسب تعبير تشرشل.

عندما نراقب الأمور عن كثب في الدول المتقدمة نلاحظ أن الديمقراطية الاقتراعية لم تكن هي الهاجس الأول ولا المحرك الأساسي لعملية التطور التاريخي. لم تكن هي الشرط المسبق. كان الهدف الأول يكمن في الخروج من حكم التعسف والاعتباط، حيث تسود شريعة الغاب والذئاب، وحيث التمييز الطائفي والعنصري يعتبر قانونا شرعيا بل وحقا إلهيا.

تريدون أمثلة على ذلك؟ متى نالت الأقلية البروتستانتية في فرنسا حقوقها؟ ليس قبل الثورة الفرنسية. بل وحتى بعدها ظلت حقوقها منقوصة ومهددة لسنوات طويلة. وذلك لأنه حتى زلزال هائل كالثورة الفرنسية لم يستطع أن يقضي بين عشية وضحاها على العصبيات الطائفية القديمة الراسخة في العقول. أقول ذلك على الرغم من أن الثورة الفرنسية كانت مضادة بعنف للمسيحية أو على الأقل للأصولية المسيحية الكاثوليكية على عكس ثورات laquo;الربيع العربيraquo; الحالية. هذا لا ينقص من شرعيتها على الإطلاق كانتفاضة صادرة من الأعماق ضد الاستبداد والانسداد السياسي. ولكنها بداية الطريق الطويل لا نهايته.

وإذا كان محمد الرميحي يقول إنه متشائم فإنني سأقول بأني لست متفائلا إلا على المدى الطويل. ما الفرق؟ وأعتقد أنه بعد الثورة ثورات.. أعتقد شخصيا أن الثورة الفكرية أو العقلية لم تحصل بعد في عالم الإسلام. وهي التي ستحسم الأمور يوما ما وتدخل العرب في التاريخ بعد أن خرجوا منه لعدة قرون. بهذا المعنى فإن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد. تريدون مثالا آخر؟ متى نال العبيد السود الذين يعتلي أحدهم الآن عرش البيت الأبيض حقوقهم كبشر؟ منذ عشرين أو ثلاثين سنة فقط. الشعب الأميركي وبخاصة في الولايات الجنوبية المحافظة كان مضادا بعنف لأن ينالوا حقوقهم الإنسانية. كان يعتبرهم أقل من الحيوانات!.. وعندما مورست الديمقراطية هناك بشكل حر ونزيه صوتت أغلبية الشعب لصالح القوانين العنصرية التمييزية. ولهذا السبب اضطرت جيوش الولايات الشمالية إلى سحق الديمقراطية والعنصريين في آن معا بالقوة من أجل تحرير العبيد. وكانت الحرب الأهلية الشهيرة. وبالتالي فالحروب الأهلية قد تكون أحيانا إجبارية أو قدرا محتوما لا فكاك منه؛ إنها معركة كسر عظم بين قوى القديم الراسخ والجديد الصاعد.. وإذن فالتقدم حصل هناك ضد الديمقراطية وليس بفضلها لأن حصيلة صناديق الاقتراع كانت مضادة لحركة التاريخ والقيم الإنسانية الحضارية.

ولذا فالشيء الأساسي كما قلنا هو التوصل إلى النظام الليبرالي الدستوري المستنير؛ أي النظام الذي يؤمن الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين، كل المواطنين بلا استثناء ولا تمييز. بعدئذ تجيء الديمقراطية الاقتراعية تدريجيا كتحصيل حاصل لكي تصدق على الحقوق الإنسانية والمنجزات الحضارية لا لكي تنقلب عليها أو تدعسها بالأرجل! سوف نرى ماذا سيحصل في تونس ومصر لاحقا.. سوف نرى فيما إذا كانت المكتسبات التي تحققت منذ عصر النهضة وحتى اليوم مهددة أم لا؟

إنجلترا بلد التنوير الأول وأعرق ديمقراطية في العالم لم تعط حق التصويت لجميع السكان نساء ورجالا إلا في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي. ولكنها كانت دولة ليبرالية دستورية قبل قرن من ذلك التاريخ؛ أي منذ عام 1830. نقول ذلك على الرغم من أن حق التصويت وانتخاب ممثلي الشعب كان محصورا بنسبة 2 % من السكان آنذاك؛ أي علية القوم والنخبة المستنيرة.. ولكن يكفي أنها كانت دولة قانون تضمن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين؛ أي حق المواطنية، وحق التدين أو عدم التدين، وحق الملكية، والفصل بين السلطات، وتاليا استقلالية القضاء، ثم حماية الحريات الأساسية كحرية الكلام والتعبير، وحرية الاجتماع أو تشكيل الجمعيات من قبل المجتمع المدني، وتأمين حرية الصحافة بطبيعة الحال.

بعدئذ جاءت الديمقراطية بالتدريج وعلى مراحل كما ذكرنا. ثم راحت إنجلترا تعطي حق التصويت لشرائح واسعة أكثر فأكثر من السكان كلما تقدمت الفئات الشعبية من المجتمع وتعلمت واستنارت وتراجعت الأفكار القديمة. ثم توصلت لاحقا إلى تحقيق المعجزة؛ أي الجمع بين الحكم الليبرالي الدستوري من جهة، والديمقراطية الاقتراعية من جهة أخرى. وهذا أكبر دليل على مدى صعوبة التوصل إلى النظام الديمقراطي اللهم إلا إذا اختزلنا الديمقراطية في مجرد آليات شكلانية وصناديق اقتراع!

الديمقراطية أكبر من ذلك بكثير، إنها فلسفة كاملة متكاملة للوجود. إنها حصيلة التقدم البشري على مر العصور.