جاسم بودي


لم تتعرض شخصية عربية في السنوات العشر الماضية لهذا الكم من الهجوم والانتقاد مثل ما تعرض له رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها الشيخ حمد بن جاسم. فالرجل لم يكن في دائرة الحدث فحسب وإنما في دائرة الجدل المستمر الذي رافق النهج الجديد الذي بدأه في حركته القطرية الداخلية ثم عممه خليجيا وعربيا وصولا الى الرحاب العالمي.
مناسبة الحديث اليوم هو القصف المتجدد بكل انواع الاسلحة على الشيخ حمد من مسؤولين عرب نتيجة مواقفه الاخيرة المتعلقة بالربيع العربي عموما والحراك السوري خصوصا. والرجل وان كان يتفهم ان بعض السياسيين يصوب السهام نحوه بالوكالة الا انه مقتنع بان مواقفه لن تعجب بالضرورة هذا الطرف العربي أو ذاك، ومتوقع تاليا ان يكون في مرمى النيران، لسبب بسيط هو انه اختار خطا معينا عرف مسبقا ان البيئة العربية ستقاومه تماما مثلما سيفعل العقل العربي والسلوك اللذان ميزا حركتنا طيلة عقود.
قبل نحو 15 عاما ناقشته في رؤيته السياسية، وأكاد أجزم انه ما زال سائرا على الخط السياسي الذي شرحه لي آنذاك. وافقت أم رفضت، كرهت أم أحببت، أيدت أم عارضت... الا ان الشيخ حمد لم يقل غير ما يضمر ولم يعلن غير ما يبطن. يومها قلت له إن السياسة التي يعتمدها تشبه السير في حقل ألغام لأن العرب لا يتحملون هذه الجرعات laquo;الانقلابيةraquo; السريعة في كل المجالات العامة بدءا من الاعلام وانتهاء بالسياسة. ويومها رد بأن العرب أساسا أسرى انقلابات وأفكار معلبة وأيديولوجيات منغلقة وشعارات زائفة وكلها لم تؤد لا إلى حرية ولا إلى تحرير، لا إلى تقدم ولا إلى تنمية، لا إلى سلام ولا إلى استقرار. كان مهجوسا بكيفية التعاطي مع العولمة ويرى أن معالجة الأمور ضمن سياقها العربي المستمر منذ عقود هو التخلف بعينه، وأن مقاربة الامور بحقائقها هو التغيير بعينه مهما كان الثمن باهظا... مع انه كان مقتنعا بأن لا ثمن أبهظ من بقاء الأمور كما هي عليه.
من شرق افريقيا الى الخليج مرورا بمصر ودول المشرق... كان الهجوم على حمد بن جاسم وجبة يومية. هنا لان الانفتاح الاعلامي يسيء الى دول وشخصيات ويفتح ملفات يجب ألا تفتح، وهناك لأن موقفه السياسي واضح ومنحاز الى الحلول ورافض للمتاجرة بدماء الأطفال والنساء والكهول. اتهامات لا تحصى ولا تعد بتدبير انقلابات وتغيير أنظمة ودعم إسرائيل وتسويق المشروع الاميركي واحتضان laquo;القاعدةraquo; وتشجيع الإخوان المسلمين، وهي اتهامات سرعان ما تنقلب إشادات إذا ما توافقت المصالح لاحقا أو اكتشفت الجهات المطلقة لها أن نتائج تحركات الشيخ حمد كانت إيجابية لها أولا.
تغيرت مواقف وتبدلت إلا أنه بقي على الخط نفسه. تريدون الحرب مع اسرائيل؟ فليستنفر الجميع بلا استثناء ويضعوا قواتهم على الجبهات ويحاربوا كرجل واحد لتتساوى التضحيات بالنتائج. اما ان هناك من يريد حربا بالوكالة ليستخدمها لاحقا كورقة تفاوضية فهذه ليست من الأدبيات الثورية، واما ان هناك من يشعل الحرب في ساحات الآخرين ويرسل مفاوضين لجني الثمار فهذه ليست من الأخلاقيات الإنسانية، واما ان هناك من يصل به الترجي حد التوسل كي تتحرك قطر مع الاميركيين للضغط على اسرائيل لتوقف عدوانها ووحشيتها وفي الوقت نفسه يطلق العنان لوسائل إعلامه كي تهاجم laquo;العملاء العربraquo; فهذا هو النفاق بعينه. كان أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة بالنسبة الى جهات سورية ولبنانية هو بطل العروبة الأول الذي ساهم في وقف عدوان يوليو 2006 واعاد بناء ما تهدم في جنوب لبنان. وكان الشيخ حمد بن جاسم رجل السلام الاول الذي اخذ الاطراف اللبنانيين الى مؤتمر الدوحة بعد اجتياح بيروت في 7 مايو 2008 وأوصلهم الى اتفاق لإدارة الدولة، وعندما تغيرت الظروف وأصر على البقاء عند النقطة السياسية التوافقية رافضا إقصاء فريق من اللبنانيين عن السلطة لم يعد الشيخ رجل السلام... وعندما وقف مع تطلعات الشعوب في التغيير صار رجل laquo;الانقلابات والمؤامراتraquo;.
لست في وارد الدفاع عن رئيس وزراء قطر فهو يملك من صفاء الرؤية والثقة والقدرة التعبيرية ما يجعله يدافع عن مواقفه بالشكل الأمثل، لكنني أتوقف فعلا عند حالة الهجوم المتعاظمة عليه وما اذا كان استمرارها مفيدا حتى للأطراف التي تنتقده.
فالرجل يقرأ التطورات بعين واقعية وفكر متفاعل إضافة الى علاقاته القوية بمراكز القرار الدولي، ولذلك يستطيع التكهن بما ستؤول اليه الامور فيحذر أو يشجع أو يدعو الى استباق الفشل أو مواكبة النجاح. والسبب الرئيس الذي يجعله في هذا الموقع ان لا عقد نقص لديه ولا أجندات مخفية، فهو لا يريد دغدغة الجماهير بشعارات ثورية بل يريد انتقال الناس من ساحات laquo;الجماهيرraquo; الى مناطق laquo;المواطنة الآمنةraquo; حيث يشارك الجميع في بناء المستقبل بأسلحة الحريات العامة والتنمية والعلم والعمل.
تحمل حمد بن جاسم الكثير من التجريح. وصلت الإساءات حد الحديث عن قضايا شخصية وأسرية، وكان دائما يرد بأن تربيته تختلف عن تربية من يطلق هذه الألفاظ. لم تثنه الاتهامات عن المضي قدما في عرض مواقفه وشرحها فما توقعه حصل في أكثر من مكان، ونصائحه الى المسؤولين العرب الذين اجتمع معهم قبل حصول تغييرات في بلدانهم كانت في محلها ولمصلحتهم ومصلحة دولهم وشعوبها، وما يريده الآن هو تحصين التغييرات العربية بوعي حقيقي يقوده مجتمع مدني واعٍ ينصرف الى تحقيق ما أمكن من أرباح وطنية وتنموية ويخفف ما أمكن من الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
يتسيد المنابر لا حبا بالأضواء وهو المطلوب الاكبر لها، بل لتوثيق الموقف والكلمة. يقول في الاجتماعات المغلقة ما يقوله خارجها كرها بـlaquo;الطريقة العربيةraquo; القائمة على مبدأ تداخل آلاف القضايا الخاصة بالقضايا العامة، ومع ذلك فحركته السياسية الصاخبة وديناميكيته اللافتة جعلتا منه حامل laquo;الصندوق الأسودraquo; لكثرة ما وقف على أسرار... وأي أسرار.
في المحافل الدولية، أثبت الشيخ حمد حتى الآن أنه الأقدر عربيا على مخاطبة الغرب بلغته، بل لا بأس من القول إن اللوبي القطري الحديث السن في الولايات المتحدة بدأ يتفوق على اللوبي الاسرائيلي الطاعن في السن والخبرة... عرف الرجل كيف يحمل مفاتيح الملفات وكيف يتحدث مع حاملي الاختام.
أخطأ حمد بن جاسم؟ جل من لم يخطئ.
جانبه الصواب مرة ومرارا؟ صحيح، لا هو يدعي الكمال والمثالية ولا القريبون منه... لكنه يبقى منسجما مع نفسه رافضا للنفاق الذي وسم الحياة السياسية العربية لعقود ومؤمنا بان التغيير قادم مهما تعاظمت حركة المقاومة الرسمية له.
في الختام، نسأل الله العلي القدير ان تبقى الحملات على الشيخ حمد في اطارها السياسي والاعلامي، وألا يدفع الحقد الأسود المقامرين والمغامرين والظلاميين إلى التهور... خصوصا أننا في عالم عربي لم تتغير مفرداته وفقد القدرة نهائيا على التمييز بين قوة الحق وحق القوة.