مطاع صفدي

سؤال الحالة المصرية في سيرورة الربيع العربي، بعد عام من تحول مجتمع السكون المصري المعهود إلى ما يشبه خضماً من هيجانات أمواج السطح الموار بشتى التشكيلات، ومن تكوّن تيارات العمق غير المعلنة عن ذاتها. فإن مصر العام الفائت والحالي هي غيرها، عما كانت عليه منذ سحيق الزمان. أية أحكام أو أوصاف كلية ينبغي ألا تتجاوز كونها ملاحظات وقتية فحسب. لكن الحكم الأشمل هو أن ثمانين مليوناً من البشر أصبحوا يبحثون عن حياة مختلفة.
صحيح أن الانتفاضة لم تفعل أكثر من كونها قد فصلت في تمثال الاستبداد/الفساد، الرأسَ عن بقية الجسد، وأن الجسد أضحى منتجاً لرأس أو رؤوس أخرى، دون أن يتخلى عن لحمه وعظمه. لكن الصحيح أو الأصح كذلك، هو القول أنه قد جرى إخراج التمثال من معبده القديم، لم يعد كهّانُه يحرسونه، يحيطون به وحدهم؛ التمثال المقطوع الرأس مطرود من معبده، مقذوف به إلى مهب الريح، يتلقى جلْدُه الممزق صفعاتِها من كل جهة. لكنه لا يزال منتصباً وإن صار مترنحاً، وكهّانه القدامى قد يتجمعون حوله في الليالي الداكنة، وعند كل صباح يحاولون مجدداً التبشير بطقوسه العتيقة.
لا يمكن القول السريع أن ثورة مصر لم تبرح بعد عتبة القصر السلطاني، ذلك أن السكان الأصليين لذلك القصر هم الممسكون حتى الآن بمفاتيح قاعاته وأقبيته المغلقة أو المخفيّة. كان رئيس الدولة هو الحارس الأول لذلك القصر، لكن عندما أزاحه ثوارُ الشارع، أغلق بقيةُ الحراس جميع بوابات القصر الخارجية، بمعنى أن أصحاب السلطة الحقيقية قد يضحون بالوكيل المباشر شرط الإبقاء على (القائد) الأصيل. فاللعبة الجديدة التي يخترعها وينفّذها أهل الحل والربط من سكان القصر السلطوي الدائمين، لا يمكنها أن تتحرر من صيغة الوكلاء، فهي لا تصر، بعد الثورة، على وضع القصر قبالة الشارع. بل تفرض عليهما معاً أن يشتركا في إعادة صياغة عمارة المدينة الهرمة، ربما بأحجارها المنخورة عينها.
فقد أتاح 'المجلس العسكري' منذ الأيام الأولى، للإخوان المسلمين أن يشكلوا حزبهم السياسي، مع إصدار قانون أو مراسيم تخصُّ التشكيلَ الحزبي (الحرّ)، أراده الثوار مدخلاً نحو حياة سياسية منظمة اجتماعياً للتيارات والفئات المتحركة في المجال العام، بعد أن ساهمت المعارضة في تحقيق الضربة القاضية على الرأس الفرعوني ـ دون جسده طبعاً ـ. فلقد نَصَّبَ المجلس العسكري نفسه حامياً للثورة الشبابية في أيام انتصارها الأول على رأس السلطة، ثم طوّر (المشير) مهمة مجلسه من وظيفة تلك الحماية المبهمة، إلى وظيفة الإمساك بقيادة المرحلة الانتقالية، هذه المسافة الزمنية، المتباعدة في مواعيدها أو المؤجِّلة لها من حين إلى آخر، سمحت لعسكر المشير باستخدام الأساليب الملتوية لإنتاج السلطة الجديدة. بمعنى أنه قد عُهِدَ للجيش، وهو العمود الفقري لنظام الاستبداد، القديم والمستدام، بوظيفة الإشراف على ولادة الدولة المدنية المنشودة.. تلك هي العقدة المركزية لمعاناة هذه المرحلة الانتقالية بكل ما اعتراها من صراعات وتناقضات الشارع الثائر مع مراكز السلطة الفعلية. فالجيش أو بالأحرى قيادته الحاكمة، وضع نفسه حاجزاً منيعاً ما بين الثورة، ومشروعها في التغيير النهضوي المنشود، بحيث لن يولد مجتمع جديد إلا وفي قمته نُسَخ معدّلة عن أصولها السابقة.
خلال هذا العام الطويل المنقضي، تمَّ لأرباب النظام القديم تعجيزُ الثورة بهدف بعثرة قواها الشبابية، وإسقاطها في حبائل الحزبيات والتيارات التقليدية، وجعلها تستنقع في هوامش الحياة السياسية العملية. لقد حيلَ بين الثورة وبين كل محاولة تبذلها بعض تكويناتها في سبيل استثمار نصرها الأول، والبناء عليه بأيديها النظيفة، بعضَ أُسس الإصلاحات العامة. فقد توالت أحداث الإعاقة والإحباط، ومعاودة القمع والاضطهاد، حتى استئناف أعمال القتل والتفظيع العلنية في الشوارع. نجحت طغمة العسكر في عكس اتجاه المرحلة الانتقالية، في جعلها أشبه بحركة ارتداد وتقهقر إلى ما قبل السقوط الفرعوني. حتى أن الفوز الساحق للإخوان المسلمين في الانتخابات في 'العهد الثوري' نُظر إليه كأنه نسخة عن نجاحهم السابق في العهد الفرعوني، مع فارق السماح لهم بدخول البرلمان في العهد الحالي بينما مُنعوا منه أيام مبارك.
يتحدث شباب الثورة عن الحِلْف الثلاثي القائم أخيراً بين ضلعيْه المحليين، العسكري والإخواني، وضلعه الثالث الدولي الذي هو أمريكا، وكأنه هو الجسر الجامع بينهما. لا يخلّف هذا الحِلْف في ذهن المراقب ثمة صورةً سريالية ما. لن تكون مختلفة عن القواعد الثابتة لاستراتيجية التدخل العضوي التي يتبعها الغرب تجاه العالم العربي.. وثوراته. أولى هذه القواعد هو اعتماد الجيش، واعتباره هو الحزب الأقوى دائماً في المجتمع المتخلّف مدنياً. فكان على (الجيش العربي) أن يصطاد حركات التمرد في هذا المجتمع. ما أن تتبدى بعض علامات، أو حدثياتٍ لحركةٍ ما من هذا الصنف، حتى يكون العسكر قد استبقوها، وإذا انفلتت منهم قليلاً، لا يلبثون حتى يختطفوها عنوةً من أهلها وقومها. فمن بين عشرات الانقلابات العسكرية التي حفلت بها عقود الاستقلال المجهضة السابقة، كانت هنالك كذلك عشرات من الثورات، أو من محاولاتها 'المدنية' المسروقة أو المحرفة أو المعكوسة. هل هذا يعني أن أعلام 'ميدان التحرير' قد سرقتها دبابات الثكنات. ألم يأتِ الربيع العربي بالثورة المختلفة عن كل أشباهها البائدة؟
الجواب السريع: ليس تماماً! ذلك أن المرحلة الانتقالية المديدة لم تكن فقط فرصةً مستعادة لنماذج ماضوية من أشكال وألوان الثورة المضادة، إن من جهة المجتمع أو في بؤر الثكنات المحيطة به، بل لعلها هي الفرصة النادرة كذلك. ليس لبروز تلك النماذج مجدداً، بل لإسقاطها في عين الوقت. فالثورة الجذرية لا تصارع أعداءها المباشرين فحسب، إن لها قوة الجذب لنقائضها الأعمق تغلغلاً في البنية التسلطية للدولة والمجتمع معاً. فمن وجهة النظر هذه ليس سهلاً التسليم بعقم المرحلة الانتقالية. فالحلف الثلاثي (عسكر، إخوان، أمريكا) ليس نصراً للردّة بقدر ما هو فضيحة هذه الردّة، به تسترد الثورة أقوى برهان مسوِّغ لتفجرها، ولديمومة مسيرتها إلى أبعد مدى؛ إنها تجرّ أعداءها إلى بؤرة الضوء الساطع، تدفعهم إلى التحالف فيما بينهم، هذا يعني أنها لم تُبق لهم إلا موقفَ الدفاع عن بقية وجود ونفوذ؛ لكن تعرف الثورة أن هذه البقية لا تزال ممسكة بمفاصل النظام الدولتي القائم. كل قوة الاستبداد هو كونه يستند إلى ما هو قائم. إلى الدولة المستمرة التي استرقها من مواطنيها؛ سخّرها لخدمة مصالحه. أخرجها من سلطة القانون، إلى جبروت الطغيان. كل ذلك كان واقعاً ساريَ المفعول، مادام الشعب غائباً أو مغيّباً عن ساحاته العامة، حينما كان يحتلّها عَسَسُ السلطان ولصوصُ المال العام وحدهم. ولكن الثورة احتلت أخيراً 'ميدان التحرير'، فرضت بعض مواعيدها الرئيسية على نوع من زمن مائع ملتبس لمرحلة إنتقالية، أُريد لها أن تبقى غاية في ذاتها إلى أبعد مدى، أملاً ألا يأتي غَدُها بغير ما أتت به أيامه السابقة السقيمة.
النظام القديم تنكشف بضائعه البالية، والثورة قُبَالَتَهُ مترصِّدةٌ لنواياه وأفعاله، تعيش تجارب الرفض والنضج في وقت واحد. هذه هي فضيلةٌ أولى لمجتمع الانفتاح في بدايته ما بعد عصر القمع المطلق. كل المعارك العامة تجاهد كيما تأخذ مساحتها من العلنية والانتشار. فلا خوف إن احتلّ الإسلاميون ثلاثةَ أرباع مقاعد البرلمان الأول الآتي ما بعد الثورة. ذلك أن المجتمع سيأتي دوره في الانعتاق من تحت سلطة اللِّحَى، كما انعتقت دولته من فرعون الفساد في قمتها حتى الآن. فالاستبداد السياسي توأمُه المضاد هو التشدّد العقائدي، ذهاب الأول يفقد الآخرَ مبرراتِ وجوده وانتشاره.
المجتمع العلني متكفّلٌ، تلقائياً وطبيعياً، بمنح قواه الحركية والسياسية حجومَها الفعلية. لا بد له من أن يتمتع بفسحة التنفس لمرحلة ما، كيما يعيد فَرْزَ مكوناته البشرية والثقافية. لكأنما أصبح المجتمع المقموع غيرَ موجود، بينما المجتمع المنعتق هو قيْدَ ولادةٍ عسيرة. قد لا تصحّ هذه المعادلة التوصيفية إلا إذا أتت الثورة بقطيعة الفصل والوصل ما بين عبارتيْها، ما بين حالة البطالة الإنسانية من الحرية (للأفراد) ومن النهضة (للجموع)، وبين حالة العودة من صيغة الرعية القطيعية إلي صيغة المواطنة السيادية. غير أن قطيعة الفصل والوصل هذه ستظلّ تأويلاً تجريدياً، وبالتالي هي محتاجة لرديفها المادي، متمثلاً في حدثان الواقع، ومفاجآته، لكنه هو هذا الذي عليه أن يفتتح ساحة المدخل الرئيسي لعمارة التغيير الشمولي المنتظر. إذ ستكون هي الساحة التي ستعطي الثورةَ العربية ككلّ، وليست ثورة هذا القطر أو ذاك فحسب، تعطيها أو تُكسبها فرصتَها التاريخية. سيكون لها عنوان واحد: التاريخ يريد إسقاط الدولة الأمنية.
إذا كان ثمة إنجاز لهذه السنة الأولى، من افتتاحية الربيع العربي، فهو أنها جسدت شعار إسقاط النظام، عبْر المنازلة المطلقة مع القلعة الحارسة للنظام، هذه الدولة الأمنية، أو هذه السلطة المعسْكِرة لذاتها ولعلاقاتها مع شعبها، في معظم أقطار الحراك السياسي لنصف قرن؛ فقد لعب الجيش دور الحزب السياسي الأقوى الذي عطّل كل نشأة طبيعية لأحزاب مدنية، كما أنه استلب أدوار أحزاب مكونة، لكنها عائمة على سطوح مجتمعاتها، من دون جذور شعبية تمنحها قدرةَ التغيير. ليس ثمة من حزب مدني واحد بالمعنى الصحيح قد استطاع الوصول إلى السلطة بقوته الخاصة طيلة حقبة الاستقلال. حتى حزب البعث فقد كان محكوماً بعسكره وأجهزته الأمنية.
أما جيش مصر فإنه أنتج انقلاب عبد الناصر الذي حاول الرجل تحويله إلى ثورة. لم يتحقق له هذا المشروع إلا كبدايات تنظيمية، وذلك ما بعد كارثة السابع والستين. لكن خُلفاء الزعيم (السادات ومبارك وأعوانهما وأمثالهما مشرقاً ومغرباً)، نجحوا في اغتيال المشروع الناصري. أدخلوا مصر والوطن العربي في نفق الردّة الشاملة على ثقافة النهضة وجيليْها السياسي والثقافي معاً. هذه الردّة أقامت صروح الاستبداد/الفساد، كما لو كانت هي الثمرات العجفاء التي تستحقها تلك النهضة، حتى أمكن لكل كاره لحاضر العرب وماضيهم أن ينعت وجودهم بالعقم الحضاري المستدام.. حتى أمكن لسياسة الغرب تحديداً أن تطمئّن إلى أن مستقبل العرب لن يكون أبداً أفضل من حاضرهم الذي يصير زمناً مؤبداً مادام الأربعمائة مليون من البشر لن يحكمهم إلا بضعة أفراد أو أُسر تحميهم جيوش جرارة، ممنوعة مقدماً من أن تكون لها عقيدة صراع ضد أي عدو حقيقي ما سوى شعوبها المستكينة.
الربيع العربي يقلب هذه الاستراتيجية الدهرية رأساً على عقب، أو أنه على الأقل يطرح إمكانية هذا التحول، إنطلاقاً من تثبيت مركزية الصراع في بؤرة الدولة الأمنية. مرحلة الانتقال المصيرية تنهض بعناوين مقدمات هذا الصراع.
وسوف يتوقف الأمر على مدى تفعيل ثنائية الانتلجانسيا/العسكريتاريا، بما يمكن لقوى الشبيبة المتعلمة أن تحتل قيادة المبادرات الطليعية في مختلف المواجهات السياسية والاجتماعية المتفجرة الراهنة والقادمة. لكن الضمانة الأولى لسلامة هذا الصراع الجديد إنما تتمثل في مذهب النظر والعمل معاً، الذي يحدده مبدأ السلطة الرئيسية هي للحريات العامة. لعل الربيع أصبح قابضاً على بوصلة السفينة، وهو مصمم على الإمساك بدفّتها في كل بحر هائج.. إن أمكن.