سعيد ناشيد


الشخص أو الجهة أو العقل المدبر الذي نظر وقدّر ثم قرّر أن الوقت قد حان والفرصة سنحت لأجل نشر الفيديو الفضائحي الذي احتفظت به أجهزة المخابرات التونسية في أقبيتها منذ سنوات التسعين، أو كانت تستعمله للمساومة والابتزاز، ربما أنه كان يتوقع نتائج غير هذه من وراء نشر هكذا شريط. ربما كان الرهان هو تحريض المعارضين للحكومة التي يقودها حزب النهضة الإسلامي لاستغلال الموقف وانتهاز الفرصة ومن ثمة الثأر للهزيمة الانتخابية التي تجرعوا مرارتها وكادت تسرق منهم فرحة انتصار ثورة الياسمين، وأيضا لتأليب العوام على الإسلاميين الذين ستبدو سطوتهم الأخلاقوية وكأنها مجرّد نفاق وتغطية على خبرات ذاتية مصحوبة بأزمة تأنيب الضمير، كما هو حال جل المحافظين من كل الديانات.
كان الظن أن ذلك الشريط سيمنح للقوى التقدمية التونسية فرصة لتكشف أمام الرأي العام أن التهجم الأخلاقوي للإسلاميين واتهامهم لغيرهم بالانحلال وبالمثلية وما إلى ذلك، لا يعدو أن يكون مجرد انعكاس للمقولة أن laquo;الإناء لا ينضح إلا بما فيهraquo;.
لكن شيئا من هذا لم يحدث. بل، سقط الرهان من أيدي أصحابه. وكان لنخبة التنوير في تونس ما يكفي من السمو والنباهة كي لا تنزلق إلى أسلوب الضربات تحت الحزام في إدارة الصراع السياسي. وهو ما أثار إعجاب كل الإسلاميين واستغراب بعضهم ممن لم يألفوا انتهاج مثل هذا السمو.
فمنذ اللحظة الأولى التي راج فيها عبر صفحات الفايسبوك، ذلك الشريط الذي يعود إلى سنوات التسعين، ويظهر فيه وزير الداخلية التونسي الحالي، وهو من أبرز وجوه حزب النهضة، يمارس المثلية الجنسية مع أحد نزلاء نفس الزنزانة التي كان يمضي فيها سنوات اعتقاله - ويبدو أن أجهزة مخابرات زين العابدين بن علي قامت بتصوير المشهد أو بفبركته (لا ندري) - انبرت كافة الأحزاب التقدمية المعارضة، ومن بينها الحزب الشيوعي والقطب الحداثي الديموقراطي وغيرهما، ممن أصدروا على الفور بيانات تندد بخلفية ترويج مثل هذه الأشرطة التي تمس بأعراض الناس، لا سيما أن الأمر يتعلق بشخص كان في وضعية سجين لسنوات. وأمام هذه النازلة أظهر التقدميون التونسيون قناعتهم الأخلاقية بأن الصراع السياسي والفكري مع الإسلاميين، يجب أن يكون بعيداً عن أعراض الناس وحياتهم الشخصية.
لم يظهر ذلك الشريط المشين على صفحات الفايسبوك سوى ساعات قليلة قبل أن يضطر صاحبه إلى سحبه بعد موجة من التنديد والاستنكار من قبل قوى الحداثة والتنوير قبل غيرها. غير أن تلك الساعات القليلة، كانت امتحانا آخر لتونس ولقدرة التونسيين، نخبا وشعبا، على تدبير الخلاف والصرع والحراك بأسلوب حضاري، وبما يليق بثورة الياسمين.
لكن المحنة هي أيضا رسالة للإسلاميين قبل غيرهم، سواء في تونس أو خارجها، مفادها أن الحياة الخاصة يجب أن تبقى، بصرف النظر عن اتجاهاتنا السياسية وميولنا الفكرية وقناعتنا المذهبية، خارج الصراع السياسي، ومجالا حصريا للحق الخاص للأفراد. عسى يدرك الإسلاميون أن احترام الحياة الخاصة للأشخاص هو ما يضمن كرامة الجميع.
لقد فرح الإسلاميون التونسيون بتضامن إخوانهم اليساريين والشيوعيين والعلمانيين معهم في محنة الشريط laquo;الفضائحيraquo; لوزير الداخلية والوجه الإسلامي البارز علي العريض. ومن حقهم ذلك، رغم أن معظمهم لا يزال يحركه هوس مهاجمة اليساريين أو العلمانيين أجمعين، والدعاء عليهم صبيحة وعشية، وتحميلهم كل المنكرات. وأنت حين تصغي للكثيرين منهم تظن أن الحرب الباردة لا تزال قائمة، وأن العلمانيين هم من فجروا مانهاتن، وأن اليساريين هم من دمروا بغداد، وأن الشيوعيين هم من يطردون إخواننا المهاجرين من أوروبا. من حسن الحظ أن قوى الحداثة والتنوير في تونس لم تعد تلتفت لمثل هذه الاستيهامات.
الآن، أكدت القوى التقدمية التونسية أنها تنأى بنفسها عن استغلال أعراض الناس في الصراع السياسي. لكن، عندي سؤال للإسلاميين: صدقا وصراحة، لو كانت شخصية يسارية أو شيوعية أو علمانية على وجه العموم، في موضع محنة laquo;علي العريضraquo;، فماذا كنتم فاعلين؟