مصطفى الفقي

كنت أتساءل دائماً لماذا يكتسب الدعاة اسماً لامعاً وشهرة واسعة خارج ldquo;المؤسسة الدينيةrdquo;؟ حتى إنني اقترحت منذ سنوات علناً ورسمياً بأن يكون الإمام الأكبر منتخباً من ldquo;هيئة كبار العلماءrdquo; وأن يكون ممن يتمتعون بمصداقية لدى الشارع الإسلامي والعربي والمصري، وليس مجرد مسؤول في الحكومة يعينه الرئيس ويوعز له بالاستقالة عندما يشاء . وطرحت أسماء لامعة من أمثال الأئمة الكبار ldquo;الغزاليrdquo; وrdquo;الشعراويrdquo; وrdquo;القرضاويrdquo; وrdquo;سيد سابقrdquo; وكانوا جميعاً وقتها أحياء، ولكن الاقتراح استقبل باستهجانٍ من مؤسسة الرئاسة كما تلقيت بعد برنامج تلفزيوني ذكرت فيه اقتراحي رسالة تحذيرٍ وتكدير، ولكن بقيت الفكرة تطفو على ذهني من حين إلى آخر .

وعندما كان لدينا إمام أكبر شديد المراس هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، أعجبني كثيراً حرصه على استقلال الأزهر ومكانته حتى جاء بعده الإمام الراحل محمد سيد طنطاوي ببساطته الشديدة وتواضعه الزائد، ثم قيض الله لهذه المؤسسة الدينية الكبرى إماماً صوفي القلب شجاع العقل، تواكبت مع إمامته الثورة الشعبية المصرية التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير ،2011 فتحرر الإمام الأكبر من قيد السلطة وضغوط الحاكم وأظهر أروع ما فيه اعتدالاً وسماحة واتساع أفقٍ وشمول رؤية، وفتح أبواب الأزهر كما هو العهد به في عصور ازدهاره أمام أهل الديانات السماوية كلها، وجمع حوله المفكرين والمثقفين بقيادة رجال الأزهر الشريف وعلمائه الكبار ممن جمعوا بين الثقافتين العربية الإسلامية والأوروبية الغربية، فاستقامت لهم النظرة الثاقبة والفهم الأمين لصحيح الإسلام، بل إن الإمام الأكبر استضاف في بعض تلك اللقاءات رموزاً من جماعة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; وrdquo;السلفيينrdquo; وغيرهم من التيارات الإسلامية القائمة، وأضاف إلى ذلك فضلاً جديداً باستصدار قرار رئيس الوزراء الذي نشأ به (بيت العائلة)، في شراكة وطنية مع الكنائس المصرية برئاسة دورية من الإمام الأكبر وقداسة البابا، وذلك لمواجهة الأحداث الطائفية إذا وقعت والوقاية منها قبل حدوثها .

ولقد أظهر الإمام الأكبر ومعاونوه من علماء الإسلام الأفاضل درجة عالية من الاستنارة الفكرية ووضوح الرؤية مع الالتزام الكامل بصحيح الدين، وتبقى لنا على الأزهر الشريف في ثوبه القشيب الملاحظات الآتية:

* أولاً: لقد كان الأزهر الشريف عبر العصور منطلقاً للحركة الوطنية وملاذاً للمصريين وموئلاً للتيارات المعتدلة والأفكار الوسطية، كما أنه استوعب أيضاً جميع المذاهب والفرق الإسلامية التي تتفق مع صحيح الدين ولا تخرج عن جوهره، وحيث إن صرحاً بهذه المكانة لأكثر من ألف عام وبهذه القيمة الكبيرة لدى أصحاب الديانات السماوية، فإن الأزهر الشريف يصبح مناراً نعتصم به في الملمات ونرجع إليه في الأزمات، ونحتكم إليه في الثورات، ولقد حضرت محاضرة للسيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإيرانية الإسلامية السابق متحدثاً في صحن الأزهر، فإذا به يقول ldquo;إننا نتطلع إلى الأزهر الشريف كي يقود العالم الإسلامي سنته وشيعتهrdquo;، إنه الأزهر الذي تعامل مع الحملة الفرنسية العسكرية وواجه مناورات نابليون السياسية، وأسهم مباشرة في قيام الدولة الحديثة بمصر عندما دعم ldquo;محمد عليrdquo; للوصول إلى السلطة، وأسهم في ميلاد الاستنارة العصرية من خلال الاحتكاك بالغرب بدءاً من رفاعة الطهطاوي، كما كان إسهامه في الفكر والثقافة والأدب والفن أمراً لا يخفى على أي باحث أمين، كما خطب من فوق منبره عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي ،1956 وخرجت من أروقته دائماً قوافل الثوار ومواكب الأحرار، فإذا كان ذلك هو الأزهر الشريف فمن الطبيعي الآن أن يستعيد دوره وأن ينطلق بغير حدود .

* ثانياً: إن الأزهر الشريف ليس ملكاً لمصر وحدها، بل هو مؤسسة كبرى ينظر إليها العالمان العربي والإسلامي بالتقدير والعرفان، كما أن هناك ما هو أكثر من ذلك، فقد درس فيه عشرات من غير المسلمين أيضاً وآمنوا بوسطيته وأدركوا اعتداله، إنه أزهر الإمام المجدّد محمد عبده والإمام الشجاع محمود شلتوت وأزهر الإمام العصري أحمد الطيب، إنه الأزهر الذي استقبل ولي عهد بريطانيا عندما ألقى محاضرة وضع فيها الأزهر الشريف في أعلى عِلّيين .

فإذا كان الإسلام أممياً، فإن الأزهر يمضي على ذات الطريق، حتى إنه قد تولى مشيخته منذ سنوات قليلة إمام تونسي هو الراحل الخضر حسين، كما أن عميد كلية الشريعة فيه كان سورياً، فالأزهر لا يفرق بين أبنائه وخريجيه المنتشرين في أنحاء المعمورة يرفعون راية التوحيد، ويدعون إلى التسامح بين الديانات المختلفة والثقافات المتعددة، لذلك جاء نشاط الأزهر في الشهور الأخيرة بعد الثورة يبشّر بقيم الإسلام الصحيح وروحه السامية .

* ثالثاً: إن رفع غطاء السلطة عن الأزهر الشريف قد أعطاه قوة دفع لم تكن متاحة له من قبل، وسمح له أن يتصرف باستقلالية كاملة لا يحول دونها إلا تعاليم الإسلام الحنيف وقواعده الراسخة، وأنا ممن يتطلعون وقد قلت ذلك كثيراً إلى جامعة أزهرية تفتح أبوابها للمسلمين وغير المسلمين فالعلم لا وطن له، كما أنه يحترم كل الأديان بغير استثناء، لذلك فإن رحابته وسعة أفقه سوف تتسع دائماً لتشمل العرب المسيحيين والمسلمين بغير تفرقة، وأنا أظن أن الفرصة مواتية لكي يفصح الأزهر عن وجهه الحقيقي بأصالته وعظمته وتاريخه المجيد . ولاشك في أن ثورات ldquo;الربيع العربيrdquo; قد أعطت زخماً جديداً لكل التيارات الوطنية لكي تصبح مساراً إنسانياً لمنطقة من العالم حرمت طويلاً من الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وعانت دائماً من الاستبداد والفساد .

* رابعاً: إن شيخ الأزهر إذ يستقبل شباب الثورة، فإنما يدشّن مرحلة جديدة من التوافق بين مفهوم الثورة الشعبية والإصلاح الديني في وقت واحد، ويؤكد مظاهر الوحدة الوطنية واختلاط الدماء الإسلامية والمسيحية في ساحة الشهداء من أجل التحرير والتنوير معاً، وإذا كانت الظروف قد شاءت أن أكون مشاركاً بجهد متواضع في وثائق الأزهر وبياناته خلال الشهور الماضية والتي عكف على صياغتها الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي د .صلاح فضل، فإننا نثمن أيضاً العائد الإنساني والوطني من اجتماعات ldquo;بيت العائلةrdquo; التي أتشرف بعضويتها أيضاً، ونأمل لها الاستمرار والدوام لا أن تكون إجراءً مرحلياً يضيف رقماً جديداً إلى محاولات أخرى عفا عليها الزمن .

. . تلك قراءة أمينة لتطور جديد طرأ على أكبر مؤسسة إسلامية في العالم المعاصر، حتى إن ldquo;الأزهرrdquo; الجامع والجامعة والإمام قد أصبح يستحق المتابعة الشديدة والرصد الكامل، وما ينجم عنهما من احترام وتقدير لتلك المؤسسة العريقة التي حافظت على التراث الإسلامي واحتضنت الشريعة والفقه واختزنت اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم .