خضير بوقايلة

يوشك السوريون على دخول عامهم الثاني من الانتفاضة الشعبية ضد نظام الحكم، والتقدم الوحيد المسجل في هذه الأزمة هو عدد القتلى والجرحى واللاجئين. عشرة أشهر من التوتر والاحتجاجات عبر مختلف المدن السورية والنظام لا يزال مصرا بثقة كاذبة على أنه ممسك بزمام الأمور ويكرر أنه ماض في طريق الإصلاح (من غير تسرع من فضلكم!)، إصلاحات لا تجد لها طريقا على الواقع ولا استجابة شعبية لأنها بكل بساطة إصلاحات نظرية ومبهمة لا أحد يؤمن بها لا على مستوى السلطة ولا في أوساط الشعب.
وليد المعلم وزير خارجية الأسد ظهر في مؤتمره الصحافي أمس متنطعا مكابرا ومحاولا خوض معارك بطولية واهية ضد الجامعة العربية ودول الخليج. المعلم اجتهد كثيرا من أجل أن ينقل اهتمامات الرأي العام من أصل المشكلة إلى جدل هامشي أثبت من قبله من الأنظمة العربية المقبورة أنها غير قادرة على السير فيه إلى النهاية. الأزمة في سورية قائمة بين نظام ظالم وشعب يريد أن يتحرر من عبودية طال أمدها، نظام لا يزال يعتقد أن الاستمرار في أسلوب الحكم بالحديد والنار لا يزال ممكنا في عصر الانعتاق والثورة التكنولوجية العارمة. المشكلة الأساسية التي كان على النظام السوري أن يواجهها بجدية ومسؤولية هي الاستجابة لمطالب السوريين الذين خرجوا مطالبين بالحد الأدنى من العيش الحر الكريم وبتخفيف القبضة الأمنية عنهم، لكن حكام البلد عجزوا عن استيعاب رهانات التغيير الزاحفة ففضلوا عوضا عن ذلك الإكثار من القهقهات والكذب على أنفسهم معتقدين أن أسلوب القمع البوليسي قادر لوحده على إخماد هذا الحراك الجديد.
الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة انطلقت من الداخل السوري يقودها رجال ونساء وأطفال لا يقلون حبا لبلدهم عن الذين يدّعون ذلك من داخل دائرة النظام وحاشيته، كان وقتها في يد الرئيس الأسد وجماعة الحكم أن يحموا البلاد من كل محاولات التدخل الخارجي ويسيطروا على الوضع بقرارات توافقية داخلية بحتة. كان هذا ممكنا نظريا، لكن النظام الحاكم لا يمكنه حل مشكلة فعلية بحلول نظرية، أما الحل الواقعي والعملي فهو أن يباشر فعلا بخطوات إصلاحية تسلم للشعب حقه في حكم نفسه بنفسه، لولا أن هذا معناه أن على المكان لا يتسع للكلمة الحرة وللغة الإهانة والطغيان إذ لا بد لإحداهما أن تختفي من الساحة وقد وجد النظام أن ذلك صعب عليه بل لا مكان له في سلة الخيارات الممكنة. حرية الشعب تقتضي أن يزول النظام الحاكم بكل مكوناته زوالا نهائيا كاملا، وكل كلام القيادة السورية عن الإصلاحات والشروع فيها لم يكن إلا كذبا على العالم، وإلا كيف نفسر عدم حصــول أي تغيير فـي واقع السوريين منذ عشرة أشهر.
وهنا كان لا بد من البحث عن مشجب آخر يعلق عليه النظام خيبته ويتنصل من مسؤولية رفض السير في طريق الإصلاح، فجاءت حكاية الجماعات الإرهابية المسلحة التي لم يكن أحد يسمع عنها شيئا إلا بعد انتفاضة الشعب، ثم تحول الأمر إلى مؤامرة خارجية تحيكها نصف الكرة الأرضية ضد سورية بلد الممانعة والصمود والتصدي، وعندما تحرك العرب لنصرة الشعب السوري الأعزل وحمايته من الزوال الحتمي تحت نيران جيوش الأمن والشبيحة وجد النظام تفسيرا لذلك في أن العرب ينفذون أجندات تمليها عليهم قوى غربية أمبريالية، ومع ذلك لم يجرؤ النظام على الحديث رسميا عن المؤامرة الصهيونية الإسرائيلية بل ترك ذلك فقط لزبانيته، وكل ما صدر عن دائرة النظام في حق العدو الرئيسي المفترض لنظام الممانعة هو الرسالة التي وجهها رامي مخلوف عبر صحيفة أمريكية مفادها أن الضامن الوحيد لبقاء إسرائيل في أمان هو استمرار نظام دمشق الحالي.
الجامعة العربية لم تعد وعاء جامعا للخطاب العربي، الخلاف بين أعضائها ليس جديدا في الحقيقة، لكنه الآن لم يعد خلافا بين أنظمة تشترك في صفة القمع والظلم ضد شعوبها بل أصبحت هنالك أنظمة منبثقة عن إرادة الشعوب وأنظمة لم تعد ترضى بقيام تحالفات على حساب كرامة الشعوب وهذه لا يمكنها أن تستمر في العمل تحت سقف واحد مع أنظمة فاسدة ظالمة طاغية، وسأبقى داعيا إلى ضرورة تحرك الأنظمة المؤمنة بإرادة الشعوب من أجل الانفصال عن الأنظمة الشمولية البوليسية ولو اقتضى ذلك تأسيس منظمة عربية جديدة تعبر بصدق عن مضمون الدولة الحديثة في المنطقة. لو حصل هذا منذ انتصار الثورتين التونسية والمصرية لما اضطر السوريون إلى شهور من الترقب والانتظار والصراخ تحت رصاص زبانية النظام الحاكم وتحت رقابة وفد الجامعة العربية الذي لم يكفه شهر من التفرج في الأبرياء وهم يقتلون ويشردون ويطاردون ويعذبون فتقدم بطلب ثان ليستمتع بالعرض شهرا آخر. رئيس وفد المراقبين العرب أعلن أن أعمال العنف تراجعت طيلة وجود فريقه على الأراضي السورية، كلام يوحي أن الرجل يعرف فعلا كم من الناس يقتلون ويسجنون في كل يوم على طول وعرض سورية. الجامعة العربية أرسلت مراقبيها لكي يتوقف القتل والقمع ويطلق سراح السجناء وينطلق مسار الإصلاحات فعليا في البلد وتجد المعارضة مكانا شرعيا لها تحت سقف مؤسسات الدولة وهذا أضعف الإيمان، لكن ها هو قائد المراقبين يمنح صك غفران جديدا للنظام ويقدمه وكأنه أدى عملا بطوليا وبأنه صار أرحم لأنه لا يقتل إلا عددا قليلا من المدنيين الأبرياء، وماذا ننتظر من رجل كهذا غير ذلك؟!
وليد المعلم حاول أمس جاهدا أن يجعل الخلاف القائم حول بلده بين النظام ونصف الكون، ثم راح يتحدث عن بيوت الزجاج العربية ويهدد حينا برميها بالحجارة إذا استمرت في الضغط من أجل إزاحة الأسد من الحكم، وحينا آخر بمعاملتها بالمثل من خلال دعم أية حركة احتجاجية هناك، أما حياة السوريين ومصير البلد المهدد بكافة الأخطار بسبب تعنت النظام فليذهبوا كلهم إلى الجحيم. النظام السوري لا يزال يرفض تقبل فكرة زواله مع أن ذلك هو المصير الحتمي له إن عاجلا أو آجلا، القاطرة تحركت ولم يعد هناك مكان لأنصاف الحلول ولا للالتفاف على إرادة الشعوب. الأنظمة الفاسدة لا مستقبل لها إلا الاندثار، والشعوب الذكية هي التي تعرف كيف تستفيد من هذا المنعرج التاريخي الحتمي لتشق طريقها نحو الازدهار والحرية وتحمي الأجيال القادمة من نفس المصير الأسود الذي ترعرعت فيه.