رشيد الخيّون

نجدها غريبةً عندما نقرأ عن تحوَّل اللَّقب من الذَّم إلى المدح، كتب القلقشندي (ت 821 هـ) قائلاً: quot;اللقب أصله في اللغة النَّبز، والنبز، بفتح الباء. قال ابن حاجب في ذخيرة الكتاب: ما يُخاطب به الرَّجلُ الرَّجلَ من ذكر عيوبه، وما ستره أحبُّ إليه من كشفه ليس من باب الشَّتم والقذفquot; (صُبح الأعشى).

وللجرجاني (ت 816 هـ) في اللَّقب أيضاً: quot;ما يُسمى به الإنسان بعد اسمه العَلم، من لفظ يدل على المدح أو الذَّم لمعنى فيه. أشار المُعرف ضمناً إلى النَّبز، وهو اللَّقب عند الذَّمquot; (التَّعريفات). هذا، وتُحسم الآية الجدل في أصل اللَّقب: quot;وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُquot; (الحَجرات: 11). ومَن يطلع على أسباب نزولها لا يشك في ما ذهب إليه المذكوران أعلاه.

قبل الدُّخول في موضوع الألقاب بعراق اليوم، وهي تطلق بلا ميزان ولا حساب، نذكر عدداً من غرائب الألقاب، من الأولين والمتأخرين: التَّاريخ (شاعر عباسي)، تيار الفرات (القعقاع بن معبد بن زرارة)، عطار المطلقات (الشَّاعر عبيد العطار)، آكل المرار (عمرو بن كلثوم)، لطيم الشَّيطان (الشَّاعر الأموي عمرو بن سعيد بن العاص)، قاتل الجوع (الشَّاعر الجاهلي ثعلبة بن امرئ القيس)، آنية (شاعر أموي). شاعر البشر (المعري حسب الرَّصافي)، عصفور الجنَّة (موسى الحضرمي)، الزَّمن (العبدي من محدثي البصرة)، بنت بطوطة (امرأة مصرية كثيرة التِّرحال)، قيثارة الله (أم كلثوم)، السَّفينة النَّوحية (مريم العذراء)، ثقة الدَّولة (تاجر بغدادي عباسي)، الأحمق المطاع (رجل من فزارة).

ومن الألقاب ذات الهيمنة: صدر جهنم (رئيس موكب الحاج مِن بغداد، وكان الحِجّاج يعطشون بسبب استحواذ غلمانه على أحواض الماء)، مضرط الحجارة (عمرو بن المنذر)، مالك رقاب الأمم (هولاكو)، سياف النِّقمة (ايتاخ التركي)، منظم الأرض الواسعة وعافي الشَّعب من الضرائب (ملك سومري)، العذاب (قائد شرطة الحَجَّاج)، أبو الموت (مـن رجال والي العراق القسري)، وسم ساعة (الطبيب إسحاق البغدادي).

وفي العهد العثماني حصلت سيطرة ما على الألقاب، فأخذت لا تُطلق إلا بكتب رسمية، منها: quot;الباشاquot; وهو لقب خاص بالولاة العثمانيين، ويمنحه السُّلطان إلى شخصيات أُخر، وقد أقترن اللَّقب برئيس الوزراء الأسبق نوري السَّعيد (قُتل 1958) وظل يُعرف به بعد زوال الألقاب العثمانية كافة، وقيل مُنح له عندما كان ضابطاً في الجيش العثماني أو جيش الشَّريف حسين (البغددي، بغداد في العشرينيات). لكن ظلت تنافسه فيه المطربة سليمة مراد (ت 1974) شعبياً، على الرَّغم مِن أنها بعد قرار الإلغاء أخذت تُعرف بسليمة مراد بدلاً مِن سليمة باشا (سالم، مغنيات بغداد). وقيل إنها عُرفت به لاسم جدها باشا. quot;الأغاquot;: القائد في الانكشارية أو الوجيه في المهنة. وأسدي َّ لقب quot;الأفنديquot; لعلماء الدِّين وكبار المثقفين الذين يرتدون البذلة الأفرنجية، وقد شاع بالعراق التَّمييز بين الأفندي ومعتمر العمامة، هذا ما كتبه الباحث علي الوردي (ت 1995) في أول كتاب له (1951) وسماهم بطبقة الأفندية (شخصية الفرد العِراقي) تمييزاً لهم عن معتمري العِقال والعِمامة. واختص لقب quot;جلبیquot; بالتجار والأغنياء. اما الفرسان فكان يُطلق عليهم لقب quot;السِّباهيquot;.

كثرت حالياً الألقاب الدِّينية: آية الله العُظمى، وآية الله، وحجة الإسلام والمسلمين. مع أن أيٍ مِن هذه الألقاب لم تكن معروفة بين علماء شيعة العِراق قبل 1920، ولم تشتهر بها النَّجف مِن قبل. إنما أغلب الألقاب كانت لها صلة بالمنزلة العِلمية، كالتسمية بالكتاب أو الباع الفقهي (كاشف الغطاء، الجواهري، البلاغي، بحر العلوم، صاحب الكفاية...). سمعت المعمار محمد مكية يتساءل ضمن كلمة له في احتفال أقامته مؤسسة آل البيت بلندن (1997) في ذكرى اغتيال محمد مهدي الحكيم (1988): quot;هل كان علي بن أبي طالب يُسمّي نفسه آية الله أو آية الله العظمىquot;!

وظهرت بالعِراق ألقاب مثل دولة رئيس الوزراء، وأحياناً يُعاض عن دولة بالحجي، وكأنه الوحيد الحاج بين النَّاس، وكيف الحال إذا أضيف للحاج لقب الدُّكتور، ويصبح الأمر لا يُطاق عندما يُقال لفلان: آية الله السيَّد الحاج الدُّكتور. حقيقة الألقاب السارية بالدوائر العِراقية تفسر بما أوردناه في البدء، مثلما فسرها القلقلشندي والجرجاني بأنها كانت للذَّم. شأنها شأن العُملة التي لا غطاء لها مِن الذَّهب، أو تُطبع بلا أُصول.

قرأت كلمات عديدة في أمر الألقاب التي حلت محل اللقب الأكاديمي، داخل الجامعة أو ما يُشير إلى منصب صاحب اللقب: المدير العام، أو الملاحظ، أو المفتش.. إلخ. فصارت الدَّوائر تكتظ بألقاب مِن مثل: الحجي، والسَّيد، والشَّيخ، وحسب حظوة صاحبها فيُدعى بسيدنا أو شيخنا أو مولانا. وبطبيعة الحال تُعبر الألقاب عن جوهر المرحلة، تُقاس عليها درجة التمدن أو التَّحضر، ومدى التَّداخل الشَّديد ما بين الحسينية والمسجد والدَّائرة الرَّسمية.

في ابتذال الألقاب أُذكر بنقدين أحدهما لفقيه نبيه وآخر لأديب أريب، وكل منهما ينقد طبقته. قال محمد جواد مَغنية (ت 1979): quot;كهذا الشَّيخ الذي كتب بالقلم العريض على ما جمع وطبع، تصنيف فلك الفقاهة، قلم التَّحقيق والنَّباهة، شيخ الطَّائفة، قدوة مجتهدي الفرقة المحقة، نائب الإمام، باب الأحكام، غياث المسلمين، حجة الإسلام، آية اللهquot; (تجارب). وقال علي جواد الطَّاهر (ت 1996): quot;في تراثنا لا تخدم الشَّاعر صفة العالم، ولا تخدم العالم والعلامة صفة الشَّاعر... والدكتور لا تخدمك شاعراً أو قاصاً أو كاتب مسرحيةquot; (الباب الضَّيق).

أضم صوتي إلى مَن ناشد ويُناشد مسؤولي بلاده لوضع حدٍ لمهزلة الألقاب، ومنهم عماد الأخرس، الذي كتب: quot;لخطورة هذه الظَّاهرة والخوف مِن امتدادها لتدخل في المخاطبات والكتب الرَّسمية لمؤسسات الدَّولة، نطالب الحكومة والبرلمان بضرورة إصدار التعليمات اللازمة للحدِّ منها، ومعاقبة كلِّ مَن يروج لها، واعتماد الألقاب المهنية والأكاديمية التي تُحَددها الشَّهادة الدِّراسيةquot; (موقع صوت العِراق).

أقول لو عاد العِراقيون إلى الكُنى، فهي مِن تراثهم في التَّوقير، أجل كثيراً مِن ألقاب جوفاء بلا أرصدة علمية أو أخلاقية، فالطَّائي يقول، ولعلَّه أبو تمام (ت 230 هـ): quot;أكنيه حين أناديه لأكرمه.. ولا أُلقبه والسوءةُ اللَّقبُquot; (الراغب، محاضرات الأُدباء). كتبت ضخامة لا فخامة، فلي ببيت أبي الطَّيب (قُتل 354 هـ)، وهو يرثي جَدته، عُذراً: quot;ولو لم تكوني بِنتَ أكرم والدٍ.. لكان أباك الضَّخم كونُك لي أماquot; (الديوان).