أمينة أبو شهاب

بدل أن تنتج دولة الربيع العربي نموذجها المرتجى في الحكم وتقدمه كي يتم احتذاؤه وتمثله والاستيحاء منه، فإذا بهذا النموذج ينتج أزماته الخاصة سريعاً، مؤثراً بذكل بشكل سلبي في وجود الدولة واستمراريتها .

نموذج الحكم في دولة الربيع العربي الذي هو نموذج إخواني لم تتبين منه البتة ملامح raquo;دولة لكل مواطنيهاlaquo;، ولم يخلّص الدولة كياناً سياسياً اجتماعياً من جماعات المصالح ومن مجموعات الحكم وعشائره بكل معانيها، كما كان الربيع يعد الجميع ويعد بدولة القانون وفصل السلطات وحق المعارضة . بدل أن تكون الدولة لجميع أبنائها وكذلك الرئيس بطبيعة الحال، إذا بها في قبضة جماعة سياسية معينة، حيث كشفت أزمتان سياسيتان في مصر مظاهر ونتائج تلك القبضة من الجماعة وصورة الدولة المتحولة إلى دولة raquo;رخوةlaquo; في وصف مواطنيها، ومعرضة لفقد الهيبة في أعين الجميع .

في أحداث يوم الجمعة الماضي كانت الجماعة في الميدان تبطش بمعارضي الرئيس والمتظاهرين ضد سياساته من رفاق الثورة، وتحطم منصتهم محولة الميدان إلى ساحة قتال تبادلت فيها مع أعدائها السياسيين الكلمات النابية والشتائم وزجاجات المولوتوف والرمي بالحجارة .

الجماعة التي كانت تمارس الطغيان وتبطش بالمعارضين كانت هي الحزب الحاكم، وتم لها فعل ذلك في ظل سكوت أجهزة الحكومة الإخوانية . أما رسالتها فكانت تتعدى مصادرة الحكم إلى مصادرة الرأي وحق المعارضة . والمدهش أن قيادات الجماعة قد ألقت بتهمة تحطيم منصة التيار الشعبي على raquo;الطرف الثالثlaquo;، وعلى raquo;البلطجيةlaquo; نافية أن يكون الإخوان هم من اعتدى على معارضي الرئيس، هذا مع تسجيل الكاميرات للأحداث ووجود عدد كبير من الصحفيين رأوا بأم أعينهم ما حدث وضلوع الإخوان فيه . الحدث والنفي معاً هما تكرار لصورة الدولة التي تمت الثورة عليها واستنساخ مطابق لممارساتها وأسلوبها مادام مفهوم أن الدولة هي امتلاك لجماعة مسيطرة وليست كياناً جامعاً مستقلاً عن الجماعات السياسية والأحزاب والقبائل والعشائر هو السائد .

أما الأزمة الأخرى في هذا الأسبوع نفسه والتي كانت سبباً لهزيمة جماعة الإخوان على الملأ واعتذار الرئيس واهتزاز صورة الدولة شعر به الجميع، فهي تتعلق بقرار رئاسي كان يصب في مصلحة الإخوان حزباً يوسع من سلطاته على حساب الدولة وكيانها . هذا القرار كان بإقالة النائب العام المصري، وفيه تصادم مرسي مع القضاء واستقلاله ولم يلتزم بحرمة القانون ونصوصه ولا بحدود الفصل بين السلطات في الدولة في تهديد صريح لأهم أسس هذه الدولة .

كان القرار الرئاسي بعزل النائب العام انتهازاً سياسياً لفرصة إزاحة خصم بعد الحكم في قضية موقعة الجمل، وكان كذلك متسرعاً وغير مترو أو متعمد على رأي صائب ودراسة لنتائجه . هذا من الناحية الفنية التي تحكم قرارات رأس الدولة وصاحب القرار . أما من حيث المضمون والجوهر، فلم يحسن مرسي استخدام السلطات المخولة له والسلطات الاستثنائية التي امتلكها بعد وصوله إلى الحكم، وتصرف في القرار بعزل النائب العام وكأنه أكبر من القانون ومن الدولة نفسها، وكأنه الوصي عليها . وحين واجهه القضاء والمجتمع السياسي بأغلب فئاته تراجع معتذراً، وتراجعت معه في الحقيقة صورة الدولة التي يرمز لها في شخصه وتصرفه السياسي .

هذا الخطأ الفادح في القرار الرئاسي والذي كانت له سوابقه في قرارات أخرى تراجع عنها مرسي، يعود إلى نموذج الحكم الإخواني في عدم تطبيقه للقانون ومبدأ الكفاءة في العمل وتغليب مبدأ الأقرب إلى الحزب، والأكثر موالاة ونفاقاً له في التعيين، وهذا ما تفسر به القرارات المرتجلة للرئاسة التي تشير إلى جهاز على رأس الدولة يفتقر إلى الكفاءة والتمرس والحكمة، ويستخدم بدل ذلك التجريب وديكتاتورية الجماعة المتحكمة ويكون همه هو تسجيل نقاط القوة على خصومه السياسيين ومحاولة إزاحتهم وذلك بعد تشويههم سياسياً .

هذا الجهاز يقدم صورة عن نموذج حكم ودولة لا يعتمدان الكفاءة والنزاهة، ويقدمان صورة ضعيفة وفقيرة للدولة في واجهتها القانونية والسياسية وفي صدقيتها، تلك الصدقية التي شاهد الجميع كيفيتها في بيانات متناقضة لأعضاء جهاز الرئاسة بخصوص إقالة النائب العام، حيث قال مستشار قانوني يحتل منصب نائب الرئيس إن النائب العام قد قبل تعيينه سفيراً لدى الفاتيكان، في حين أن النائب العام قد نفى قبوله إقالته وقبوله منصب السفير، هذا المنصب الذي أعد لرجل القانون الأهم في الدولة كلها قبل أسبوعين من الإقالة .

إنه نموذج حكم لا يصلح للمقارنة إلا مع سابقه وهو النظام القديم . بل إن النظام القديم صار يتفوق في أعين منتقديه الكثيرين من ناقدي النظام الحالي بتماسك واجهته الرمزية والسياسية والقانونية، في حين أن النظام الحالي هو مهلهل الواجهة ومفتقد للهيبة وأبسط شكليات الحكم .

إنه نموذج حكم يتكتل حول السلطة والاستحواذ عليها، ويقصي الرأي والمعارضة ويسلط أتباعه الإلكترونيين على مواقع الرأي الإعلامي في هجمات سفيهة وحادة لا تحترم رأياً أو اجتهاداً سياسياً . وهو يحارب الصحافيين والإعلاميين ويظهر قوة شرسة متحدية لا عهد للمجتمع بها من قبل حين يواجه بالاختلاف وبالبدائل الأخرى . ولأنه نموذج تسلطي بهذه الدرجة من القهر، فليس غريباً إذن أن ينتج هذا النموذج أزماته في الحكم بهذه السرعة .