قدري حفني

يعد التوجس من المجهول شعورا طبيعيا بل لعله البداية الطبيعية تاريخيا لتطور المعرفة حيث يدفع

ذلك التوجس بالمرء إلي استكتشاف ذلك المجهول لتطمئن نفسه بمعرفة جديدة. ويختلف الخوف عن مرض الرهاب في أن الأخير خوف بالغ ولكن من أمر لا ينبغي أن يثير الخوف عادة كالخوف من الظلام أو من الأماكن المفتوحة أو المغلقة.
من الرهاب ما يعرف بالخوف الطليق وهو أقرب ما يكون إلي الخوف من المجهول, خوف يصل إلي حد الذعر مما يشل القدرة علي استكشاف ذلك المجهول. ويتمثل أحد أساليب علاج الرهاب في غمر المريض بخطوات محسوبة في ذلك المجهول المخيف, بحيث يتعرف عليه المريض شيئا فشيئا فيهدأ روعه. وغني عن البيان أن البرء من الرهاب لا يعني القضاء علي الخوف, بل علي العكس حين يبرؤ المريض من الرهاب قد يكتشف أن ثمة ما يدعو للخوف بالفعل فيشحذ قواه لمواجهته موضوعيا. ولو انتقلنا من مجال الطب والعلاج إلي مجال المجتمع والسياسة لأصبح الأمر أكثر وضوحا.
ظلت جماعة الإخوان المسلمين غاطسة لسنوات طوال تحت سطح الحياة السياسية, شأنها شأن تيارات اليسار الراديكالي الشيوعي; وبقية تيارات الإسلام الراديكالي, ولم يسمح لأي من رموزهم بالظهور في الحياة السياسية العامة إلا إذا أعلن صراحة و تيقنت الأجهزة الأمنية المعنية أنه لم يعد أو لم يكن إخوانيا أو شيوعيا, أو أنه أصبح من الإسلاميين أو الاشتراكيين المعتدلين, أو أنه قد طلق انتماءه القديم تماما, و حبذا لو انقلب عليه مهاجما مفندا.
غني عن البيان أن الخفاء يدفع بالمختفي إلي التمسك بصواب أفكاره, وتضخيم ذاته وتعظيم قدراته مبررا ذلك بعنف السلطة في مواجهته. ومن ناحية أخري يدفع الخفاء بالناس إلي تضخيم ذلك المختفي والمبالغة في تقدير قواه خوفا منه وتبريرا لمحاولات السلطة قهره وسحقه; أو إعجابا بقدرته علي التحدي وتأكيدا لحتمية انتصاره في النهاية. ومن ناحية ثالثة تسعي أجهزة الأمن يساندها إعلام السلطة إلي المبالغة في خطورة ذلك المختفي لأسباب غنية عن البيان. ويبقي الخفاء دوما مرتبطا بالمبالغة في تقدير قوة المختفي.
هبت رياح ثورة يناير2011 لتجرف فيما جرفته ذلك الحظر الطويل للتيارات الدينية واليسارية. لقد انهارت الأسوار وبرح الخفاء ورأينا في ميدان التحرير رايات بكل الألوان والأشكال. سوداء وصفراء وحمراء. السيفين المتقاطعين, والمطرقة والمنجل, والجمجمة السوداء وصور عبدالناصر وبن لادن وجيفارا والشيخ عبدالرحمن. لقد أصبح الجميع تحت الأضواء الكاشفة. ولم يلبث أن اكتشف الجميع وبالأرقام بعد الانتخابات أن اليسار بألوانه لا يمثل الغالبية الكاسحة لجموع المصريين رغم حلم الجميع بالعدل الاجتماعي الذي ظن اليسار أنه يحتكر رايته, كذلك فقد اكتشف الجميع أن تيارات الإسلام السياسي بكل ألوانها والتي ظنت أنها تحتكر التعبير عن صحيح الدين, لا تحظي بإجماع المصريين ولا حتي باختيار غالبيتهم الكاسحة رغم غلبة التدين علي سلوك المصريين جميعا. ورغم أن انتخابات الرئاسة قد أسفرت عن فوز رئيس حزب الحرية والعدالة بأغلبية نسبية; وأن معارضيه لا يبعدون كثيرا عن الفوز; ورغم أنه لم يعد من مبرر للخفاء أو الاختفاء, فبدلا من أن يدرك كل طرف حجمه الموضوعي ويسعي لجذب أنصار جدد, بقي الإحجام عن الرؤية الموضوعية للآخر, وظل التوجس القديم قائما, بل لعله تزايد.
العديد من أبناء التيار الإسلامي السياسي وليسوا جميعا- يعانون رهاب العلمانية ويتوجسون من أية بادرة مهما كانت خافتة تشي بما يبدو متعارضا مع رؤيتهم ليتصايحوا منذرين ها هم العلمانيون يتقدمون فهبوا للدفاع عن صحيح العقيدة فإذا ما حاول أحد تنبيههم بأن الأمر لم يعد علي ما كان عليه, وأن ما يفزعهم أمر حمال أوجه, وأن العلمانيين ليسوا نسيجا واحدا; التفتوا عن ذلك مرددين إنك تبدو ساذجا لا تعرف ألاعيب العلمانيين وخبثهم وتلونهم وقدرتهم علي بث السم في العسل
من ناحية أخري يقف العديد من معارضي تيار الإسلام السياسي وليسوا جميعا- من المصابين برهاب الأخونة متحفزين لأية بادرة تحمل شائبة تدين لا تتوافق مع أفكارهم, فتنطلق صيحاتهم محذرة مرتعبة ألم نحذركم؟ هاهم الإسلاميون ماضون في أخونة الدولة والعودة بنا إلي خلافة الملك العضوض فإذا ما حاول أحد تنبيههم إلي أن ما يرونه قد يكون حدثا فرديا, أو قنبلة دخان وراءها خبيء, أو أنه تعبير عن كامن ظل مكبوتا زمنا طويلا, أو أننا لا نستطيع أن نضعهم جميعا في سلة واحدة. إذا ما حاول أحد شيئا من ذلك التفتوا عنه مرددين نفس العبارة إنك تبدو ساذجا لا تعرف ألاعيب الإخوان و خبثهم وتلونهم و قدرتهم علي بث السم في العسل
خلاصة القول أنه لا بأس من أن نخاف الآخر, فلعل لديه ما يهددنا بالفعل; ولكن لكي نقضي علي الخوف ونواجه التهديد بحق, علينا أولا أن نري ذلك الآخر حق الرؤية وأن نري أنفسنا كذلك دون أن يدفعنا الرهاب إلي عماء وعنف يدمرنا جميعا ويدمر الوطن.