محمد خليفة
في هذا الجو المعتم في ظل الأحداث المفزعة التي تعيشها المنطقة العربية، فقدت الكلمات معانيها كما فقدت أهدافها، حيث إنه من الصعب الخروج بنتائج دقيقة متفائلة عن نتائج تلك الأحداث التي تشبه في كارثيتها ونتائجها الزلازل، وكأننا نعيش في عصور الغابة والعصور الحجرية، وفي أزمنة السطو البربري والبربرية . إنها حالة نفي إنسانية الآخر، حيث يُساق الخوف مبرراً لارتكاب أبشع الجرائم، جرائم القتل والتخريب والتدمير التي كانت تتم في العصور المظلمة في تاريخ البشرية . وتأسيساً على ذلك، كان بيان السودان عن تعرضه لهجوم قامت به ثماني طائرات حربية ldquo;إسرائيليةlaquo;، من دون أن يهتز للعالم الحر جفن، أو يهمس إعلامهم الحر عن تلك الجريمة ببنت شفة، أين حقوق الإنسان؟ بل أين حقوق الدول؟ أين أنت يا حمرة الخجل من جبين المجتمع الدولي؟ إن هذا العمل لهو خير دليل على حقيقة ldquo;إسرائيلrdquo;العدوانية، إذ كيف تقوم طائرات ldquo;إسرائيليةrdquo;حربية بالهجوم على مجمع ldquo;اليرموكrdquo;للصناعات الحربية جنوب مدينة الخرطوم، وتدميره ومقتل شخصين وإصابة ثالث، دون أن تخشى من ردة فعل المجتمع الدولي؟ ولكن منذ متى وهذه الدولة الغاشمة تضع في حسبانها المجتمع الدولي ؟ وكيف يكون المجتمع الدولي أكثر غيرة على كرامة الأمة العربية منّا؟ ألم يقل شاعرنا العربي:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك حقها
هواناً بها كانت على الناس أهونا؟
إن هذا العدوان ldquo;الإسرائيليrdquo;ليس عدواناً على السودان وحده، لكنه اعتداء على الأمة العربية كلها، ولو أنها رُدعت أولاً لما تجرأت ثانياً وثالثاً . . . وعاشراً، فقد دمرت ldquo;إسرائيلrdquo;العام 1981 المفاعل الذري العراقي الذي اشترته الحكومة العراقية من فرنسا بمليار دولار، وتم تدميره في غمضة عين، وغيبة للكرامة العربية في زمن السلام، وتوعد العراق آنذاك بالرد لكنه لم يفعل . وفي العام ،2007 دمّرت ldquo;إسرائيلrdquo;مفاعلاً نووياً سورياً في منطقة دير الزور قبل أسابيع من أن يصبح قابلاً للتشغيل . كما أقدمت ldquo;إسرائيلrdquo;على اغتيال خليل الوزير ldquo;أبو جهادrdquo;في تونس في عملية طيران اخترقت فيها الأجواء التونسية، وتوعدت تونس بالرد آنذاك، لكن ldquo;أبو جهادrdquo;قضى نحبه في تلك العملية، ونقل إلى دمشق ودفن فيها، وتم بعد ذلك نسيان الأمر، وكأن شيئاً لم يحدث . وقد اعترفت ldquo;إسرائيلrdquo;رسمياً، الأسبوع الماضي، بأنها هي التي قتلت ldquo;أبو جهادlaquo;، بعد نحو 35 سنة . وقد نفّذ عملية الاغتيال الضابط ناحوم ليف بناء على خطة أعدها نائب رئيس الأركان يومها إيهود باراك . كما نفذت ldquo;إسرائيلrdquo;عمليات اغتيال عديدة لمقاومين فلسطينيين في عواصم عربية مختلفة، وتم قَيْدُ قضاياهم ضد مجهول . واغتالت بدم بارد الشهيد المقعد أحمد ياسين، وكالعادة صدر شجب عربي فقد معناه . من منا يذكر كم مرة قامت الطائرات ldquo;الإسرائيليةrdquo;باختراق المجال الجوي في لبنان، إضافة إلى الخروق البحرية للمياه الإقليمية لدول الجوار؟
إن هذا الاعتداء على أرض السودان وكرامته، تم وكأنه حدث في كوكب آخر، فلم تصدر إدانة واحدة من القِوى المؤثرة التي تدعي محافظتها على السلم والأمن الدوليين، بل تم تجاهل الأمر، واعتبار أن الفاعل مجهول، أو من باب القضاء والقدر، فالاتهام، من وجهة نظر هذه القِوى، لا يكفي وحده، بل يجب أن يكون هناك دليل إدانة واضح . وحتى لو ظهر الدليل ظهور الشمس في رابعة النهار، فالفيتو موجود للتغطية على تلك الجرائم، كما تم من قبل في عشرات الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، وجنوبي لبنان، والأسرى من نساء وأطفال، فكم ظهرت تقارير لجان دولية- بتكليف من الأمم المتحدة - بإدانات واضحة لتلك الجرائم - كان آخرها تقرير غولدستون -، ولكن هذه التقارير لم تساو يوماً المداد الذي كتبت به، كما لم تردع يوماً صيحات الشجب والتنديد، هذا الطفل المدلل للقوى الكبرى . ما الذي يمنع ldquo;إسرائيلrdquo;أن ترسل طائراتها لتقطع مئات الأميال، وتضرب موقعاً في قلب السودان وقرب عاصمته؟ فلو كان لدى ldquo;إسرائيلrdquo;أدنى شك في تعرض هذه المهمة للفشل، وأنها ستفقد طائراتها وطياريها في هذه المهمة، لما أقدمت على تلك المهمة التي اعتبرتها نزهة، وقدمت درساً لمن يفرطون في أمنهم القومي، ووجهت إنذراً لأعدائها بأن لها يداً باطشة قادرة على أن تصل إلى أبعد مدى لتحقيق أهدافها .
ليتنا نعي هذا الدرس جيداً، ولا نعتمد على مؤسسات دولية فقدت شرعيتها لتأتي لنا بحقوقنا، أو تحفظ لنا أمننا . وعلى الأمة العربية أن تمتلك قوة الردع، وهذا ليس واجباً وطنياً فحسب، بل هو واجب شرعي كذلك . والواقع خير شاهد على ذلك، فكوريا الشمالية، دولة محاصرة بموجب عقوبات دولية منذ أمد بعيد، وهي في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الأقصى والعالم، ومع ذلك استطاعت أن تبني قوة جبارة، فلديها أسلحة نووية ووسائل إيصالها إلى أهدافها على بعد آلاف الأميال، وهي دولة صغيرة، فمساحتها 120 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها نحو 20 مليون نسمة، لكنها تتحدى كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة وحلف الناتو، ولا تجرؤ طائرة على العبور في أجوائها . فما الذي كان يمنع السودان من امتلاك نظام إنذار مبكر كفيل برصد أي هدف يخترق الأجواء السودانية؟ قطعاً هناك الكثير من الدول المستعدة لتزويد السودان بهذا النظام وبالدفاعات الجوية المطلوبة، لكن إرادة البناء في السودان مفقودة .
إن جهود سنوات طويلة في بناء هذا المجمع الصناعي العسكري دمرته ldquo;إسرائيلrdquo;في لمح البصر . إن القوة هي الكفيلة بإحقاق الحق في الأرض، وقد قال هتلر: ldquo;لن يسأل أحد المنتصر فيما إذا كان قد قال الحقيقةrdquo;.
لقد جاء الصهاينة إلى فلسطين بموجب وعد توراتي مشبوه بأن فلسطين هي ldquo;أرض الميعادlaquo;، وتحولوا هناك من مهاجرين ضعفاء إلى قوة عسكرية ضخمة، وامتلكوا أراضي عربية واسعة بقوة السلاح، وها هم اليوم يسرحون ويمرحون يقتلون ما يشاؤون من الشعب الفلسطيني، ويعتقلون ما يشاؤون، ويعربدون في فضاء الأمة، وكل ذلك لأنهم امتلكوا القوة، وأدركوا أن القوي هو الذي يفرض شروطه في الأرض .
التعليقات