عادل إبراهيم حمد


عندما يتحدث مواطن في ولاية الخرطوم عن مشاكله أو آماله فإنه غالباً ما يتحدث عن أزمة مواصلات خانقة، ويتمنى على حكومة الولاية أن تبني كباري طائرة وأنفاقا جديدة وأن تسمح الدولة باستيراد الحافلات المستعملة لزيادة الأسطول العامل في النقل الداخلي. ويشكو هذا المواطن من عدم وجود اختصاصي نساء وتوليد في المستشفى القريب الشيء الذي يضطره للذهاب مع زوجته للمستشفى الكبير البعيد الذي يقال إن وزارة الصحة الولائية بصدد تفكيكه وتوزيعه على أنحاء مختلفة في العاصمة. ويبدي المواطن رأياً مؤيداً للقرار. وقد يقوده الحديث عن الصحة إلى الشكوى من المياه العكرة التي تتسبب في كثير من الأمراض، ويعجب كيف تفشل هيئة المياه في عملية التنقية البسيطة حسب وصفه، وقد يشكو أحياناً من انقطاع التيار الكهربائي. وكثيراً ما يتحدث بنبرة غاضبة عن الرسوم العالية التي يدفعها لإدارة المدرسة الخاصة التي يدرس فيها أبناؤه، ويصف الوضع بالفوضى ويعزو الحالة إلى الوزارة التي جعلت التعليم الخاص استثماراً تجارياً تقليدياً. وبعد فراغه من الشكوى من ارتفاع رسوم المدارس الخاصة يشكو من ارتفاع أسعار تذاكر الألعاب في الحدائق العامة. وبما أنه مهتم بفن الغناء ويطرب للفنانين الشباب فقد يعرج على المسارح ويشكو من ضيق المسرح الداخلي في نادي الضباط الذي لم يسع جمهور الفنان محمود عبدالعزيز في الحفل الأخير الذي نفدت تذاكره مبكراً. أما في الرياضة فقد يصف مقصورة استاد الهلال بأنها غير مريحة ويهاجم مجلس الإدارة المقصر، وقد يصفه بأنه غير شرعي بعد استقالة أكثر من نصف الأعضاء، ويحار كيف تسمح المفوضية للمجلس بالاستمرارية.
هو نمط لحياة حضرية، تتكامل بوجود مسكن ومدرسة ومشفى وأماكن للترفيه ووسائل نقل مريح يتنقل بها المواطن بين مسكنه وعمله والمؤسسات الخدمية التي ترتبط بها حياته.. لكنه نمط غير معمم، بل يمكن بسهولة إيراد أنماط أخرى تختلف جذرياً حتى يشك المراقب في وجود هذه الأنماط المتباينة في بلد واحد. فإذا تحدث مواطنون من أصقاع بعيدة أخرى فإنهم يوردون أمثلة جد مختلفة، وقد يكون ما يشكو منه مواطن الخرطوم حلماً عند مواطن في الريف يتمنى أن يذهب ظمأه بجرعة ماء عكرة من حفير أو ترعة. ولا يرتبط نشاطه الاقتصادي بما يجعل المدرسة والمركز الصحي من اهتماماته دعك عن الاستاد والمسرح، فهو راع تنحصر شكواه في شح الأمطار وفقر المراعي والاحتكاكات الدائمة مع الرعاة؛ حيث يسقط بين الحين والآخر قتلى، ولن تتسلل إلى لغتهم مفردات انقطاع التيار؛ لأنه لم يصلهم ولا أزمة المواصلات في أرياف لا تعرف السيارات، وتزدحم رواياتهم بأخبار عن قتل بعير أو سرقة ثور أو قطيع كامل.. وبدرجة أقل فإن مواطناً من ولاية نهر النيل سوف يتكلم عن زراعة التوم والشمار والبقوليات التي لم تعد تدر الدخل المغري بالاستمرار في الزراعة، وأن رمال الزحف الصحراوي التي كانت قبل سنوات قليلة على بعد بعيد قد وصلت الآن إلى جدران منازلهم.
المشروع القومي المشترك ما زال بعيد المنال؛ فالآلام والمواجع مختلفة، وكذلك الآمال؛ ذلك لغياب الفكر الاستراتيجي الذي ينقل الشعب كله وفق خطة مدروسة إلى نمط حياة متقارب جوهره المدنية.. ولعل أخطر ما في التباين بين أنماط الحياة في السودان أن النمط الحضري الذي يفترض أن تتقارب معه الأنماط الأخرى موجود في مدن لا ترتبط بنشاط اقتصادي منتج. نمت بانحياز سياسي من نخب حاكمة ربطت حياتها بالبقاء في المدن فأوجدت فيها أسباب الحياة السهلة فأصبح الرفاه النسبي غير مرتبط بالإنتاج. وكاد يصبح من المسلمات أن النشاط الرعوي مرتبط بمفارقة المدنية حتى صارت صورته التقليدية أنه قطاع منتج اقتصادياً ومتخلف اجتماعياً. وقد رسخت هذه الصورة حتى ظن البعض أن نظائر رعاتنا من منتجي الألبان في هولندا أميون يجوبون مع أبقارهم الفيافي في خلاء فسيح بحثاً عن عشب هنا وهناك.. ولن تتبدل هذه الصورة إلا بظهور ساسة يملكون رؤية واضحة لتطوير وتحديث قطاعات الإنتاج التقليدية فتكون المحصلة النهائية نقل مظاهر وجوهر المدنية إلى الأرياف، بدلاً عن الصورة المقلوبة الحالية التي يتم بها ترييف المدن. فهي مراكز حضرية أنشأتها نخب محدودة الأفق لمقابلة حاجات محدودة تخص هذه النخب، فأصبحت من حيث لا يدري أصحاب النظرة الضيقة أوعية تضيق بالنازحين الذين أحاطوا المدينة بأحزمة عشوائية تحمل ثقافات الهامش.
النمط الحضري الموحد يخلق المشتركات المعينة على الحديث بلغة مشتركة وبرامج متقاربة. ولا يعزى التباعد الواقع الآن للاختلافات الإثنية والنعرات القبلية وحدها؛ إذ تلعب الفوارق الثقافية واختلاف مفردات الآلام والآمال الدور الأكبر في إحداث الشقة والإحساس بالغربة بين (مجموعات) الشعب الواحد، فإذا تشابه النمط الحياتي وصب في قالب مدني تتجه كل الوسائل نحوه، فإن ذلك من أقوى أسباب خلق المشروع القومي الموحد.