جيفري كمب
في الرابع من فبراير الجاري لجأت كل من روسيا والصين إلى استخدام حق النقض (الفيتو) لتعطيل صدور قرار من مجلس الأمن الدولي كان يفترض أن يدين الأعمال الوحشية التي تقوم بها الحكومة السورية، على الرغم من أن ذلك القرار لم يطلب صراحة استقالة الرئيس السوري. ومن المعروف أن القرار المذكور كان يحظى بدعم قوي من أعضاء الجامعة العربية وبتأييد 13 من أعضاء مجلس الأمن الـ15 وقد مثّل رفضه صدمة للكثيرين، كما أدلت سفيرة الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية بتصريح قالت فيه إنها تشعر بالاشمئزاز quot;بسبب استخدام الفيتو ضد القرارquot;. ويشعر كثيرون في مختلف أنحاء العالم بالحيرة إزاء قرار روسيا والصين مساندة ودعم نظام الأسد. وقد شبه كاتب العمود الأميركي الشهير توماس فريدمان مناورة روسيا والصين الأخيرة لإنقاذ النظام السوري بموقف quot;من يحاول شراء تذكرة ذهاب وعودة على ظهر السفينة تايتانيك غرقهاquot;.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: ما الذي يدفع روسيا والصين، اللتين تسعيان للاحتفاظ بعلاقات طيبة مع العالم العربي، للإقدام على اتخاذ مثل هذه الخطوة الرجعية؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من العودة لصفحات التاريخ.
في عام 1951 قامت حكومة ماو تسي تونج المشكلة حديثاً بغزو التبت مدعية أنها تاريخياً كانت جزءاً من الصين. كانت الحملة العسكرية ضد التبت عنيفة ومصحوبة بحملة دعائية جيدة، وأدت إلى احتلال هذه المقاطعة ونفي القائد الروحي لها الديلاي لاما الذي هرب قبل إلقاء القبض عليه عبر الجبال إلى الهند المجاورة، حيث تحول فيما بعد إلى متحدث قوي باسم شعبه، يكشف ما يتعرض له هذا الشعب من إساءات وظلم على أيدي الصينيين. ونظراً لأن الصين حساسة للغاية تجاه أي انتقادات لسياستها في التبت، فإنها حاولت على مدى سنوات طويلة مطاردة الديلاي لاما لإجباره على الابتعاد عن حقل السياسة الدولية، لكن جهودها في هذا المجال ذهبت سدى، بل يمكن القول إنها جاءت بنتائج عكسية حيث اشتدت الانتقادات الموجهة لسياستها في التبت كما أن التركيز على قضية التبت لفت الانتباه إلى قضية أخرى تتعلق بمعاملة السلطات الصينية لأقليات أخرى تعيش في غرب البلاد.
والصين لديها أسباب قوية تدعوها لاحتلال هضبة التبت. فمن هذه الهضبة تتحكم الصين في أهم مصادر المياه في العالم، حيث تنبع منها الأنهار الكبرى في القارة الآسيوية التي يعتمد عليها المليارات من الآسيويين في معاشهم بل وفي وجودهم ذاته. وخلال هذا القرن، من المتوقع -بحسب الخبراء- أن يصبح الوصول إلى مصادر المياه واحداً من أكثر الموضوعات إثارة للنزاعات في القارة الآسيوية، وذلك بسبب تزايد الطلب على المياه لأغراض الزراعة والطاقة والصناعة، خصوصاً مع تزايد أعداد السكان وازدياد وتقدم النشاط الصناعي في عدد كبير من بلدان القارة، وعلى وجه الخصوص في الصين والهند. ومن المهم أن يشار في هذا السياق إلى أن معظم خلافات الصين مع جيرانها تتعلق بالتنازع على مصادر المياه.
والهموم الداخلية الروسية لا تقل خطورة عن مثيلتها الصينية. فعندما انهار الاتحاد السوفييتي، ومعه جهاز أمن داخلي فعال وقاس قمع الشعوب السوفييتية بلا رحمة، وحال دون أي نشاط سياسي معارض، ظهرت على أنقاضه خمس عشرة دولة جديدة، كما انفصلت شعوب أوروبا الشرقية عن فلكه. وفي دولة روسيا التي ورثت دور الاتحاد السوفييتي كان لابد للمظالم التي عانت منها الأقليات التي تعيش فيها أن تجد طريقها للظهور. وكان مسلمو شمال القوقاز هم الأكثر جرأة في الجأر بشكواهم من جراء هذه المظالم، وفي المطالبة برفعها، بل وصل بهم الأمر في الشيشان إلى حد المطالبة بالانفصال عن موسكو، وهو ما أدى إلى تدخل الجيش الروسي للحيلولة دون ذلك الانفصال ونشوب الحربين اللتين دارتا في ذلك البلد واللتين شكلتا كابوساً لإدارتي يلتسين وبوتين ونتجت عنهما خسائر بشرية هائلة، سواء في صفوف المنشقين أو في صفوف القوات الروسية، كما ارتكبت أثناءهما فظائع رهيبة، وهو ما كان سبباً في الإساءة لسمعة روسيا في الساحة الدولية. وبعد انتهاء القتال في الشيشان، حرصت روسيا على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحيلولة دون نجاح الحركات الانفصالية في كل من أنجوشيا وداغستان المجاورتين، وهو هدف صعب نظراً لصعوبة تضاريس المنطقتين وشراسة شعبيهما، مما يجعل منهما منطقتين غير قابلتين للحكم والسيطرة.
وعلى ضوء ذلك يمكن القول إن دعم روسيا للنظام السوري ينبع من العلاقات العسكرية بين الطرفين: فمن المعروف أن روسيا هي أكبر مورد للسلاح لسوريا، كما تحتفظ بقاعدة بحرية في ميناء طرطوس المطل على البحر الأبيض المتوسط. وروسيا تخشى أن يسقط نظام الأسد ويحل محله نظام جديد يحرمها من قاعدتها البحرية التي تعتبر القاعدة البحرية الوحيدة لها في المياه الدافئة خارج البحر الأسود.
وهناك سبب آخر دعا كلا من روسيا والصين للوقوف إلى جانب نظام الأسد، ألا وهو خوفهما من قيام قوات تابعة لعدد من الدول الغربية والدول العربية بالتدخل في سوريا للإطاحة بالأسد، على غرار ما حدث في ليبيا للإطاحة بالقذافي. فمن المعروف أن الدولتين قد رفضتا في حينه التفويض الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بجواز استخدام القوة ضد القذافي، وشعرتا بأن quot;الناتوquot; قد خان ثقتهما عندما قام بدعم تغيير النظام في ليبيا بدلاً من الاكتفاء بحماية المدنيين كما كان ينص التفويض المذكور.
وقد أدركت روسيا والصين أن الرهانات مرتفعة للغاية في الحالة السورية، وأن الإطاحة بالأسد سوف تضعف إيران لحد كبير وتزيد من قوة ونفوذ الولايات المتحدة في منطقة الخليج. صحيح أنه لا روسيا ولا الصين راغبتان في الحلول محل أميركا في الخليج، لكنهما أيضاً لا تريدان رؤية الولايات المتحدة وقد باتت في وضع يمكنها من إحداث تغيير في طهران.
خلاصة القول: هناك أسباب استراتيجية تفسر السلوك الروسي والصيني في الأمم المتحدة، وسوف يكون من قبيل الحمق وانعدام الحكمة الاعتقاد بأن استمرار الأسد في ارتكاب الفظائع سوف يقنعهما بتغيير موقفهما في نهاية المطاف.
التعليقات