رشيد الخيّون


كلُّ سنةٍ يصدر حزب quot;البعثquot; بالعراق بياناً يهنئ فيه الشعب العراقي بذكرى انقلاب الجمعة 8 فبراير 1963، وهو دأب على تسميتها بـquot;عروسة الثَّوراتquot;، بينما دأب المتضررون منها، وهم كُثر، على تسميتها بـquot;الانقلاب الأسودquot;، كذلك في كلِّ سنة يصدرون بياناً يُذَّكرون فيه ما حصل خلال الأشهر التِّسعة مِن حُكم الحرس القومي، الذي يسميه خصومه القوميون بالحرس اللاقومي بعد الانقلاب عليه صبيحة الاثنين 18 أكتوبر 1963، وثُبتت ممارسات الحرس القومي في كتاب quot;المنحرفونquot; (1964).سيُقال إن هذا الكتاب ملفق، لأنه مسطور بقلم الخصم. كذلك لا نلجأ إلى ما أفاض به ضحايا قصر quot;النِّهايةquot; على اعتبار أنها مجروحة أيضاً! وهو قصر الرِّحاب الملكي، الذي تحول إلى مسلخ بشري في تلك الأيام، وأُعيد فتحه بعد الانقلاب الثَّاني لـquot;البعثquot; فجر الأربعاء 17 يوليو 1968.
يعلم الدَّاني والقاصي بما حصل في (فبراير -نوفمبر 1963) مِن مقاتل وتجاوزات على الأعراض، واستغلال الدِّين في أقصى إساءة له، وهو إشهار التَّكفير والادعاء بتمزيق كتاب الله واتهام الخصوم به، وقد كتب ذلك بعثي سابق، ولكم مراجعة العلوي quot;عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرينquot;.
ومع ذلك لنعتبر شهادات الخصوم زوراً، لكن تصعب المكابرة على أصحاب الشَّأن. كتب أحد مؤسسي quot;البعثquot; أكرم الحوراني (ت 1996) قائلاً عن أمين quot;البعثquot; العراقي علي صالح السَّعدي (ت 1977)، وكان يلتقي بالحوراني خلال وجوده ببغداد عام 1974: quot;لقد أصبح إنساناً محطماً ما أن يستعرض ما مضى من أحداث ثورة الثامن من فبراير في العراق حتى ينفجر باكياً، بصورة تدعو إلى الرِّثاء، وكان يُحمّل ميشيل عفلق مسؤولية كل ما ارتكبه الحزب بعد المؤتمر الخامس سواء في سوريا أو في العِراق. ولقد حدثني بعض عارفيه أنه كثيراً ما يستيقظ في الليل فزعاً على صراخ المعذبين، ومَن أُغرق في نهر دجلةquot; (مذكرات الحوراني).كتب خالد علي الصالح (ت 2008)، أحد مؤسسي فرع quot;البعثquot; العراقي قائلاً: quot;إن الذي حدث بعد 8 فبراير 1963 يعتبر مسؤولية دولة وليس مسؤولية حزب فحسب. فإذا كان يصعب على أيٍ كان أن يُسيطر على انفلات الأعصاب في الأيام الأُولى إلا أنه لا يمكن للدولة أن تُمارس تلك التصرفات الوحشية وغير الإنسانية طوال الفترة التي سيطر فيها حزب البعث على السُّلطةquot; (على طريق النَّوايا الطيبة). ولكثرة ما سُفك مِن دماء أهدى الصالح كتابه quot;إلى كل قطرة دماء أُريقت على أرض العراق من جسد يحمل ضميراً نبيلاًquot;.

كذلك كتب القيادي في quot;عروسة الثوراتquot; هاني الفكيكي (ت 1996) كتاب quot;أوكار الهزيمةquot; وفيه ما فيه من الموجعات. وكتب وزير خارجية الحرس القومي طالب شبيب (ت 2009) quot;عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدمquot;، الذي حرض فيه على كشف سر الفتاوى التي أُخذت من علماء الدين لقتل مَن في السجون، وتلك قصة نوهنا عنها في مقال quot;الرَّاوي... قسوة توظيف الدينquot; (الاتحاد).كتب شبيب واستفز الرَّاوي (ت 2011) فراح فاضحاً سراً من المحجوبات، وهو استحصاله فتاوى قتل لتنفيذ الإعدام بالآلاف. قال شبيب: quot;ساعدتنا عصبية عبد الغني الرَّاوي، الذي رفض التنفيذ لأن عدد المطلوب قتلهم قليل جداً بالنسبة له! وطالبَ بإعدام المئات في حين أُبلغ بتنفيذ الإعدام بحق ثلاثين فقط. فتدخلنا، وبعد جدال طويل أقنعنا أحمد حسن البكر أن لا يُنفذ حكم الإعدام سوى بثلاثين اسماً يُحددون بالاسم، ويتم التنفيذ في نقرة السلمانquot; (من حوار المفاهيم...). صدرت تلك الكتب في حياة أصحابها، وكتب الراوي فاضحاً ذلك السر. يُنبيك تصرف الأخير عن الدور القومي في سفك الدماء، والراوي لم يكن بعثياً إنما كان قومياً متديناً.
لم يذكر العراقيون من quot;عروسة الثَّوراتquot; سوى الجماعة المسلحة التي شكلها quot;البعثquot; سَّنة 1962 بعنوان laquo;لجان الإنذارraquo;، لتظهر في الانقلاب، وتحتل مراكز الشرطة، وربط أعضاؤها على أذرعهم قطعة قماش نقش عليها (ح- ق) أي الحرس القومي (من حوار...). وكانت تشكلت رسمياً وفق قانون 35 في فبراير 1963(المنحرفون). أما عن اتهام الآخرين بأنهم عُملاء للأميركان والبريطانيين، فالقيادي السابق محسن الشيخ راضي، قال في لقاء شخصي معه، إن 8 فبراير ليست بريئة من فعل خارجي، لأنه، حسب عبارته، لم تكن لدى quot;البعثquot; تلك القدرة على فعل ثورة! لكن مراجعة كتاب العقيلي quot;بريطانيا ولعبة السلطة في العراق...quot;، تكشف التَّعاضد الأميركي البريطاني في قيام quot;عروسة الثوراتquot;. فعلامَ الإكثار من اتهام الآخرين، والذين هم بدورهم جعلوا سقوط quot;البعثquot; صناعة من صناعاتهم، والجلاء الأميركي أيضاً تحقق بجهدهم، وهو كذب في كذب. فأنتم جئتم في قطار أميركي وهؤلاء جاءوا في القطار نفسه!
على أية حال، لم تبق في سويداء القلب قطرة ضغينة ضد quot;البعثquot;، مع ما فعله في 8 فبراير و17 يوليو، فبعد سقوط دولته وما حصل، ليس لنا سوى العِراق، فمستقبله مثلما نرى ونسمع بات على كف عفريت. فمِن الوهم أن يُصدق العراقيون بأن 8 فبراير كانت ديمقراطية، ومِن الوهم أن يعود quot;البعثquot; إلى السُّلطة، ويأخذ النَّاس بشعار قومي، فقد لبث في الحكم نحو الأربعين عاماً ولم يُشيد الوحدة فكيف يغوي بيانه الأخير بأن فبراير ثورة الأمة العربية، وأنها جاءت ضد النهج القِطْري!
ألا يفكر مَن صاغ البيان، ودأب على صياغته كلَّ عام، أن ما حصل ويحصل للعِراق هو مِن سوء ذلك الشِّعار، فهذه الجموع العِراقية، التي تظهر فاغرةَ الأفواه ومشدوهة العقول، الخالية الفِكر إلا من الخرافة تصبح عليها وتُمسي، هي مِن أدران خطيئة quot;البعثquot;. أنظروا في واقع الحال وراجعوا أنفسكم، فذاكرة النَّاس ليست هشة.

أتذكر نزلتُ مِن فندق ببيروت، وكان يوم 22 فبراير 2008، وإذا بستة أو سبعة أنفار يتوسطهم quot;البعثيquot; معن بشور، رافعين علم الوحدة المصرية السُّورية (1958-1961)، لا يسترعون التفات المارة، كأنهم يلتفون حول طللٍ. بالمعنى نفسه (نحو 1987) أن جماعة مِن قرية quot;رُصدquot;، في عمق جمهورية اليمن الدِّيمقراطية، رفعوا مذكرة إلى جورباشوف يحذرونه فيها مِن السَّير في طريق البروسترويكا. ختاماً، لا أظن أن quot;البعثquot; في شعاراته المكابرة كان أقل توهماً مِن الجماعتين!