عبد الملك بن أحمد آل الشيخ


يمر العالم العربي بمرحلة تاريخية عسيرة تستهدف قيمه وسيادته وثرواته المادية والبشرية، ويمثل الإنسان العربي حجر الزاوية في هذا الاستهداف؛ فهو مستهدف في كيانه المعنوي؛ إذ يتعرض للتغييب ولمحاولات التشويش والمساس بقيمه ومقدساته ورموزه، أو السعي إلى وضعه في قالب الخضوع صباح مساء، من خلال البرامج الثقافية، تلفزيونية كانت أو منشورة، موجهة ومستهدفة له، إضافة إلى ما تتداوله شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة المبلدة للذهن والحاثة على التمرد والانحلال، فتبعده عن التركيز على المعرفة المفيدة في هذه الشبكات وتنمي لديه سطحية التعامل مع منجزات الثورة المعلوماتية ووسائلها.
فالفخ الذي وقع فيه البعض في عالمنا العربي أنهم يرون أن النهضة عن طريق نقل أسباب التحديث غير ممكنة كما هو في الغرب ما لم يتم التعدي على الثوابت، وأهمها تلك المتعلقة بالدين ورموزه، فيخلطون بين التصادم الواجب مع أسباب التخلف في مجتمعاتهم، كالفقر والأمية والفساد المحتكر منه والشائع، والتخبط في التنمية، والحجر على العقول أو التفرد بالقرار وشيوع الاستبداد، وبين التصادم مع المقدس لدى شعوبها، ولا يفهمون أن ذلك طريق غير سالك؛ لأن طريق الأخذ بقشور الحضارة المعاصرة وحريتها المزعومة دون لبها هو طريق الانفصام الحضاري المؤدي للسقوط.
فما دامت هذه الأفكار الخاطئة قد تسللت إلى البعض، وأصبحت الدم الذي يتحرك داخل شرايينهم، فمن الخطأ النظر إليها على أنها مجرد نزوات وحالات نفسية فردية، بل لا بد أن نشخصها التشخيص الصحيح ونسميها بمسمياتها وفقا لما نعتقد ونؤمن به دينا وسياسة واجتماعا، ونخوض معها صراعا إيجابيا ضد امتداداتها في مجتمعاتنا وفي واقعنا، وما لم نغير ما بأنفسنا من فعلها فإننا لن نغير أبدا ما ينعكس علينا من مختلف آثارها؛ لأن تلك المعارك ليست مع أفراد تنكروا للقيم الاجتماعية أو للدين وتعدوا على رموزه (الفرد بشر معرض للخطأ وقابل للعودة إلى الصواب، والتاريخ القديم والحديث زاخر بهذه الحالات الفردية)، بل هي معركة مع فكر منظم له رموزه ومروجوه، الذين يعملون ليل نهار على تغذية الشعور لدى الفرد العربي بالتعالي على الدين والمجتمعات وقيمها، مما يذكي روح التمرد لدى من انخدع ببريق الصورة والكلام، ضد المقدس وغير المقدس.
فمعاركهم هي معارك الانعزال والانفصال عن كل ما هو سائد في مجتمعاتهم، التي عادة تسبقها حملات تمهيد، مكثفة ومدروسة، لتسليك الطريق نحو خلخلة الثوابت الدينية والاجتماعية والسياسية، ينفذها حملة أقلام شرع لهم الأعلام الغربي ومنظماته أبوابه ونوافذه باسم حرية التعبير وحقوق الإنسان، تتبعها مراحل برمجة عملية من صياغة للعقول، تسبق عمليات التجنيد الفكري والسياسي.
فمعارك الانفصال تلك تغذيها وتدعمها منظمات مشبوهة من خارج الحدود ويتبناها ويخطط لوقوعها، في كل بلد عربي، عدد محدود من أبناء تلك البلاد خلقت منهم تلك المنظمات ووسائل إعلامها رموزا وقادة فكر وإصلاح، في تجنٍّ واضح على الفكر ومدارسه وعلى الإصلاح وطرائقه (في غفلة تاريخية سوف ندفع ثمنها لا محالة عاجلا أو أجلا). فلا بد أن يعي هؤلاء أن الدين في العالم العربي يتداخل مع عادات الناس، وفي حياتهم، وحتى في لغة تخاطبهم، إلى حد يمكن أن نقول معه من دون أدنى مجافاة للموضوعية إنه الصائغ الأكثر أهمية لخصائصهم النفسية أو ما يسميه علماء الاجتماع جامعتهم الثقافية. فأي محاولة لاقتلاع الدين من وجدان الشعوب العربية من خلال الترويج للتمرد عليه وعلى ثوابته سواء أكان بحماية أم تبني أفراد تجاوزوا المألوف للإساءة للدين باسم التنوير والتجديد وحرية التعبير، لن تكون عاملا مساعدا على كسب عقول الناس وقلوبهم ولا على استقرار هذه الدول ومجتمعاتها.
إن السبيل إلى التنوير والتجديد، والنجاح الحقيقي لتعزيز قيم العدالة وحقوق الإنسان وحماية الحريات في العالم العربي، ليس في تبني أفكار المعتدين على مقدسات الشعوب العربية ورموزها الدينية، والدفاع عنهم، بل يكمن في تشجيع الإنسان العربي على الانخراط في العصر.
مع التوكيد أن الانخراط في العصر لا يعني محاكاة الآخر في طباعه ومعتقده أو بالنقل المشوه لطرائق حياته، أو بصورة عامة تقليد قشور حضارته تقليدا لا يمكن أن يرقى أبدا إلى الإبداع ومن ثم النهوض الحضاري المعتبر.
إن النجاح لا يكمن إلا بوقوف الفرد العربي بندية واثقة وكاملة إلى جانب الآخر، مستمدا قوته ومحققا فرديته من المخزون التاريخي لديه: الديني، السياسي، والاجتماعي، مع الاستعداد للإبداع والتجديد والتنوير في سبيل النهضة، من خلال تعزيز التواصل والتلاقح مع الحضارات الإنسانية كافة، وأهمها الغربي منها، وهو التواصل الحضاري الذي ما انفك الآخر ينكره في حق الإنسان العربي ما لم يقدم له هذا العربي قرابين الولاء والطاعة من خلال التنكر لمجتمعه والتعدي على دينه ورموزه! ليصبح الطعن في المقدس لدينا شرطا من شروط التواصل والنهضة!